الأحد، 25 نوفمبر 2012

ما جاء في حريق الكعبة, وما أصابها من الرمي من أبي قبيس بالمنجنيق:

     ما جاء في حريق الكعبة, وما أصابها من الرمي من أبي قبيس بالمنجنيق:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد وإبراهيم بن محمد الشافعي، عن مسلم بن خالد, عن ابن خيثم, عن عبيد الله بن سعد أنه دخل مع عبد الله بن عمرو بن العاص المسجد الحرام، والكعبة محرقة، حين أدبر جيش الحصين بن نمير، والكعبة تتناثر حجارتها، فوقف ومعه ناس غير قليل فبكى حتى إني لأنظر إلى دموعه تحدر كحلًا في عينيه من إثمد، كأنه رءوس الذباب على وجنتيه، فقال: يأيها الناس، والله لو أن أبا هريرة أخبركم أنكم قاتلو ابن نبيكم بعد نبيكم، ومحرقو بيت ربكم لقلتم: ما من أحد أكذب من أبي هريرة، أنحن نقتل ابن نبينا ونحرق بيت ربنا؟ فقد والله فعلتم، لقد قتلتم ابن نبيكم، وحرقتم بيت الله، فانتظروا النقمة، فوالذي نفس عبد الله بن عمرو بيده، ليلبسنكم الله شيعًا وليذيقن بعضكم بأس بعض، يقولها ثلاثًا، ثم رفع صوته في المسجد، فما في المسجد أحد إلا وهو يفهم ما يقول، فإن لم يكن يفهم فإنه يسمع رجع صوته، فقال: أين الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؟ فوالذي نفس عبد الله بن عمرو بيده، لو قد ألبسكم الله شيعًا وأذاق بعضكم بأس بعض؛ لبطن الأرض خير لمن عليها، لم يأمر بالمعروف ولم ينهَ عن المنكر.
حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عمرو بن دينار, عن حسن بن محمد بن علي بن الحنفية، قال: أول ما تكلم في القدر حين احترقت الكعبة، فقال رجل: طارت شررة فاحترقت ثياب الكعبة، وكان ذلك من قدر الله، وقال الآخر: ما قدر الله هذا.
حدثنا مهدي بن أبي المهدي, عن عبد الملك الذماري، قال: أخبرنا سفيان

ص -157-      الثوري, عن سلمة بن كهيل, عن عليم الكندي، قال: قال سلمان الفارسي: لتحرقن هذه الكعبة على يدي رجل من أهل الزبير.
أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن جعفر الزهري قال: سألت أبا عون: متى كان احتراق الكعبة؟ قال: يوم السبت لليال خلون من شهر ربيع الأول، قبل أن يأتينا نعي يزيد بن معاوية بتسعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين،  قلت: وما كان سبب احتراقها؟ قال: جاءنا موت يزيد، توفي لأربع عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين، وكانت خلافته ثلاث سنين وتسعة أشهر، والحصين بن نمير يومئذ عندنا، وكان احتراقها بعد الصاعقة التي أصابت أهل الشام بعشرين ليلة، قال أبو عون: ما كان احتراقها  إلا منا، وذلك أن رجلًا منا -وهو مسلم بن أبي خليفة المذحجي- كان هو وأصحابه يوقدون في خصاص لهم حول البيت، فأخذ نارًا في زج رمحه في النفط، وكان يوم ريح، فطارت منها شررة فاحترقت الكعبة حتى صارت إلى الخشب، فقلنا لهم: هذا عملكم, رميتم بيت الله عز وجل بالنفط والنار! فأنكروا ذلك.
قال: حدثني محمد بن يحيى قال: قال الواقدي: حدثني رباح بن مسلم, عن أبيه قال: كانوا يوقدون في الخصاص، فأقبلت شررة هبت بها الريح، فاحترقت ثياب الكعبة واحترق الخشب.
حدثني محمد بن يحيى قال: قال الواقدي: وحدثني عبد الله بن يزيد, عن عروة بن أذينة قال: قدمت مكة مع أبي يوم احترقت الكعبة، فرأيت الخشب قد خلصت إليه النار، ورأيتها مجردة من الحريق ورأيت الركن قد اسودّ فقلت: ما أصاب الكعبة؟ فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزبير، فقالوا: هذا احترقت الكعبة في سببه؛ أخذ نارًا في رأس رمح له، فطارت به الريح فضربت أستار الكعبة  فيما بين الركن اليماني إلى الركن الأسود.

ص -158-      حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن سعيد بن عبد العزيز, عن رجل من قومه قال: نصبنا المنجنيق على أبي قبيس فاعتقبه1 الرجال، وقد ألجأنا القوم إلى المسجد، فبنوا خصاصًا حول البيت في المسجد ورفافًا من خشب تكنهم من حجارة المنجنيق، فكنت أراهم إذا أمطرنا عليهم الحجارة يكتنون2 تحت تلك الرفاف، قال: فوهن الرمي بحجارة المنجنيق الكعبة, فهي تنقض.
حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن رباح بن مسلم عن أبيه قال: رأيت الحجارة تصك وجه الكعبة من أبي قبيس حتى تخرقها، فلقد رأيتها كأنها جيوب النساء، وترتج من أعلاها إلى أسفلها، ولقد رأيت الحجر يمر، فيهوي الآخر على إثره، فيسلك طريقه، حتى بعث الله عليهم صاعقة بعد  العصر، فاحترق المنجنيق واحترق تحته ثمانية عشر رجلًا من أهل الشام، فجعلنا نقول: قد أظلهم العذاب، فكنا أيامًا في راحة حتى عملوا منجنيقًا آخر, فنصبوه على أبي قبيس3.
حدثني محمد بن إسماعيل بن أبي عصيدة... قال: حدثني أبو النضر هاشم بن القاسم الليثي, عن مولى لابن المرتفع, عن ابن المرتفع، قال: كنا مع ابن الزبير في الحجر، فأول حجر من المنجنيق وقع في  الكعبة، فسمعنا لها أنينًا كأنين المريض, آه آه4.
حدثني جدي, حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج، قال: أخبرتني عجوز من أهل مكة كانت مع عبد الله بن الزبير بمكة، فقلت لها: أخبريني عن احتراق الكعبة كيف كان؟ قالت: كان المسجد فيه خيام كثيرة،

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "واعتنقه".
2 كذا في الأصل أ. ومثله في إتحاف الورى 2/ 61. وفي ب: "يكنون".
3 إتحاف الورى 2/ 61.
4 إتحاف الورى 2/ 61.

ص -159-      فطارت النار من خيمة منها فاحترقت الخيام، والتهب المسجد حتى تعلقت النار بالبيت فاحترق، قال عثمان: وبلغني أنه لما قدم جيش الحصين بن نمير، أحرق بعض أهل الشام على باب بني جمح والمسجد يومئذ خياما وفساطيط، فمشى الحريق حتى أخذ في البيت، فظن الفريقان كلاهما أنهم هالكون، فضعف بناء الكعبة، حتى إن الطير ليقع عليه فتتناثر حجارته.
باب ما جاء في بناء ابن الزبير الكعبة, وما زاد فيها من الأذرع التي كانت في الحجر من الكعبة, وما نقص منها الحجاج:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي أحمد بن محمد, عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، قال: سمعت غير واحد من أهل العلم ممن حضر ابن الزبير حين هدم الكعبة وبناها، قالوا: لما أبطأ عبد الله بن الزبير عن بيعة يزيد بن معاوية، وتخلف وخشي منهم؛ لحق بمكة ليمتنع بالحرم، وجمع مواليه، وجعل يظهر عيب يزيد بن معاوية ويشتمه ويذكر شربه الخمر وغير ذلك ويثبط الناس عنه، ويجتمع الناس إليه فيقوم فيهم بين الأيام فيذكر مساوئ بني أمية فيطنب في ذلك، فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فأقسم أن لا يؤتى به إلا مغلولًا، فأرسل إليه رجلًا من أهل الشام، في خيل من خيل الشام، فعظم على ابن الزبير الفتنة وقال: لأن يستحل الحرم بسببك، فإنه غير تاركك ولا تقوى عليه، وقد لج في أمرك وأقسم أن لا يؤتى بك إلا مغلولًا، وقد عملت لك غلا من فضة، وتلبس فوقه الثياب، وتبر قسم أمير المؤمنين، فالصلح خير عاقبة وأجمل بك وبه؛ فقال: دعوني أيامًا حتى أنظر في أمري، فشاور أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- فأبت عليه أن يذهب مغلولًا وقالت: يا بني, عش كريمًا ومت كريمًا، ولا تمكن بني

ص -160-      أمية من نفسك فتلعب بك، فالموت أحسن من هذا، فأبى عليه أن يذهب إليه في غل، وامتنع في مواليه ومن تألف إليه من أهل مكة وغيرهم، وكان يقال لهم: الزبيرية.
فبينما يزيد على بعثة الجيوش إليه، إذ أتى يزيد خبر أهل المدينة وما فعلوا بعامله, ومن كان معه بالمدينة من بني أمية, وإخراجهم إياهم منها إلا من كان من ولد عثمان بن عفان.
فجهز إليهم مسلم بن عقبة المري، في أهل الشام وأمره بقتال أهل المدينة، فإذا فرغ من ذلك سار إلى ابن الزبير بمكة، وكان مسلم مريضًا، في بطنه الماء الأصفر، فقال له يزيد: إن حدث بك الموت، فولِّ الحصين بن نمير الكندي على جيشك. فسار حتى قدم المدينة فقاتله أهل المدينة فظفر بهم ودخلها، وقتل من قتل منهم، وأسرف في القتل، فسمي بذلك مسرفًا، وأنهب1 المدينة ثلاثًا.
ثم سار إلى مكة، فلما كان ببعض الطريق حضرته الوفاة، فدعا الحصين بن نمير فقال له: يا برذعة الحمار، لولا أني أكره أن أتزود عند الموت معصية أمير المؤمنين ما وليتك، انظر إذا قدمت مكة فاحذر أن تمكن قريشًا من أذنك فتبول فيها، لا تكن إلا الوقاف، ثم الثقاف2، ثم الانصراف.
فتوفي مسلم المسرف، ومضى الحصين بن نمير إلى مكة، فقاتل ابن الزبير بها أيامًا، وجمع ابن الزبير أصحابه، فتحصن بهم في المسجد الحرام وحول الكعبة، وضرب أصحاب ابن الزبير في المسجد خيامًا ورفافًا يكتنّون فيها من حجارة المنجنيق, ويستظلون فيها3 من الشمس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أنهب الشيء: جعله نهبًا يُغار عليه.
2 أي: المجالد بالسلاح.
3 كذا في الأصل ب. وفي أ: "بها".

ص -161-      وكان الحصين بن نمير قد نصب المنجنيق على أبي قبيس وعلى الأحمر -وهما أخشبا مكة- فكان يرميهم بها فتصيب الحجارة الكعبة، حتى تخرقت كسوتها عليها، فصارت كأنها جيوب النساء، فوهن الرمي بالمنجنيق الكعبة، فذهب رجل من أصحاب ابن الزبير يوقد نارًا في بعض تلك الخيام، مما يلي الصفا بين الركن الأسود والركن اليماني، والمسجد يومئذ ضيق صغير، فطارت شررة في الخيمة فاحترقت، وكانت في ذلك اليوم رياح شديدة، والكعبة يومئذ مبنية بناء قريش مدماكا من ساج، ومدماكا من حجارة من أسفلها إلى أعلاها، وعليها الكسوة، فطارت الرياح بلهب تلك النار فاحترقت كسوة الكعبة واحترق الساج الذي بين البناء، وكان احتراقها يوم السبت لثلاث ليالٍ خلون من شهر ربيع الأول قبل أن يأتي نعي يزيد بن معاوية بسبعة وعشرين يومًا، وجاء نعيه في هلال شهر ربيع الآخر ليلة الثلاثاء سنة أربع وستين، وكان توفي لأربع عشرة خلت من شهر ربيع الأول سنة أربع وستين؛ وكانت خلافته ثلاث سنين وسبعة أشهر.
فلما احترقت الكعبة؛ واحترق الركن الأسود فتصدع، كان ابن الزبير بعد ربطه بالفضة، فضعفت جدرات1 الكعبة، حتى إنها لتنقض من أعلاها إلى أسفلها، وتقع الحمام عليها، فتتناثر حجارتها وهي مجردة متوهنة من كل جانب، ففزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعًا، والحصين بن نمير مقيم،  محاصر ابن الزبير.
فأرسل ابن الزبير رجالًا من أهل مكة من قريش وغيرهم، فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، ورجال  من بني أمية إلى الحصين، فكلموه وعظموا عليه ما أصاب الكعبة، وقالوا: إن ذلك كان منكم  رميتموها بالنفط فأنكروا ذلك وقالوا: قد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا تقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى تنظر ماذا يجتمع عليه رأي صاحبك -يعنون معاوية بن يزيد- وهل يجمع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل أ. وفي ب: "جدارات".

ص -162-      الناس عليه؟ فلم يزالوا حتى لان لهم، وقال له عبد الله بن خالد بن أسيد: أراك تتهمني في يزيد, ولم يزالوا به حتى رجع إلى الشام.
فلما أدبر جيش الحصين بن نمير، وكان خروجه من مكة لخمس ليالٍ خلون من ربيع الآخر سنة أربع وستين، دعا ابن الزبير وجوه الناس وأشرافهم وشاورهم في هدم الكعبة، فأشار عليه ناس غير كثير بهدمها، وأبى أكثر الناس هدمها، وكان أشدهم عليه إباء عبد الله بن عباس، وقال له: دعها على ما أقرها عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى فيتهاون الناس في حرمتها، ولكن ارقعها، فقال ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع  بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله سبحانه، وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى إن  الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته؛ وكان ممن أشار عليه بهدمها جابر بن عبد الله -وكان جاء  معتمرًا- وعبيد بن عمير، وعبد الله بن صفوان بن أمية.
فأقام أيامًا يشاور وينظر ثم أجمع على هدمها، وكان يحب أن يكون هو الذي يردها على ما قال  رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "على قواعد إبراهيم" وعلى ما وصفه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة -رضي الله عنها، فأراد أن يبنيها بالورس ويرسل إلى اليمن في ورس يشترى له،  فقيل له: إن الورس يرفَتُّ1 ويذهب، ولكن ابنها بالقَصَّة2، فسأل عن القصة فأخبر أن قصة صنعاء هي أجود القصة، فأرسل إلى صنعاء بأربعمائة دينار يشترى له بها قصة ويكترى عليها، وأمر بتنجيح ذلك.
ثم سأل رجالًا من أهل العلم من أهل مكة: من أين أخذت قريش حجارتها؟ فأخبروه بمقلعها، فنقل له من الحجارة قدر ما يحتاج إليه.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يرفتّ أي: ينكسر ويتحطم ويصير رفاتا, والرفات: الحطام, والفتات من كل ما تكسر واندقّ.
2 القَصَّة -بالفتح: الجص، لغة حجازية.

ص -163-      فلما اجتمعت الحجارة وأراد هدمها خرج أهل مكة منها إلى منى، فأقاموا بها ثلاثًا فرقًا من أن ينزل عليهم عذاب لهدمها، فأمر ابن الزبير بهدمها، فما اجترأ أحد على ذلك، فلما رأى ذلك، علاها هو بنفسه فأخذ المعول وجعل يهدمها ويرمي بحجارتها، فلما رأوا أنه لم يصبه شيء اجترءوا فصعدوا يهدمونها، وأرقى ابن الزبير فوقها عبيدًا من الحبش يهدمونها؛ رجاء أن يكون فيهم صفة الحبشي، الذي قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة" قال: وقال مجاهد: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: كأني به أصيلع، أفيدع, قائم عليها, يهدمها بمسحاته.
قال مجاهد: فلما هدم ابن الزبير الكعبة، جئت أنظر، هل أرى الصفة التي قال عبد الله بن عمرو؟  فلم أرها فهدموها وأعانهم الناس، فما ترجّلت الشمس حتى ألصقها كلها بالأرض من جوانبها  جميعًا1.
وكان هدمها يوم السبت النصف من جمادى الآخرة سنة أربع وستين، ولم يقرب ابن عباس مكة حين هدمت الكعبة, حتى فرغ منها، وأرسل إلى ابن الزبير: لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب، واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلوا إليها، ففعل ذلك ابن الزبير، وقال ابن الزبير: أشهد لسمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إن قومك استقصروا في بناء البيت، وعجزت بهم النفقة، فتركوا في الحجر منها أذرعًا، ولولا حداثة قومك بالكفر، لهدمت الكعبة وأعدت ما تركوا منها، ولجعلت لها بابين موضوعين بالأرض، بابًا شرقيا يدخل منه الناس، وبابًا غربيا يخرج منه الناس، وهل تدرين لم كان قومك رفعوا بابها؟" قالت: قلت: لا، قال: "تعززًا ألا يدخلها إلا من أرادوا، فكان الرجل إذا كرهوا أن  يدخلها، يدعونه أن يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط، فإن بدا لقومك هدمها، فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 70.

ص -164-      منها" فأراها قريبًا من سبعة أذرع1.
فلما هدم ابن الزبير الكعبة وسواها بالأرض، كشف عن أساس إبراهيم فوجدوه داخلًا في الحجر نحوًا من ستة أذرع وشبر، كأنها أعناق الإبل أخذ بعضها بعضًا، كتشبيك الأصابع بعضها ببعض، يحرك الحجر من القواعد فتحرك الأركان كلها، فدعا ابن الزبير خمسين رجلًا من وجوه الناس وأشرافهم وأشهدهم على ذلك الأساس، قال: فأدخل رجل من القوم -كان أيدًا- يقال له: عبد الله بن مطيع العدوي، عتلة كانت في يده في ركن من أركان البيت، فتزعزعت الأركان جميعًا، ويقال: إن مكة كلها رجفت رجفة شديدة حين زعزع الأساس، وخاف الناس خوفًا شديدًا، حتى ندم كل من كان أشار على ابن الزبير بهدمها، وأعظموا ذلك إعظامًا شديدًا وأسقط في أيديهم، فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا، ثم وضع البناء على ذلك الأساس، ووضع حدات الباب، باب الكعبة على مدماك على الشاذروان اللاصق بالأرض، وجعل الباب الآخر بإزائه في ظهر الكعبة مقابله، وجعل عتبته على الحجر الأخضر الطويل الذي في الشاذروان الذي في ظهر الكعبة قريبًا من الركن اليماني2.
وكان البناة يبنون من وراء الستر، والناس يطوفون من خارج، فلما ارتفع البنيان إلى موضع الركن، وكان ابن الزبير حين هدم البيت، جعل الركن في ديباجة وأدخله في تابوت وأقفل عليه ووضعه عنده في دار الندوة، وعمد إلى ما كان في الكعبة من حلية فوضعها في خزانة الكعبة، في دار شيبة بن عثمان، فلما بلغ البناء موضع الركن أمر ابن الزبير بموضعه، فنقر في حجرين: حجر من المدماك الذي تحته، وحجر من المدماك الذي فوقه، بقدر الركن وطوبق بينهما، فلما فرغوا منه أمر ابن الزبير ابنه عباد بن عبد الله

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 70, 71.
2 إتحاف الورى 2/ 71, 72.

ص -165-      ابن الزبير، وجبير بن شيبة بن عثمان، أن يجعلوا الركن في ثوب، وقال لهم ابن الزبير: إذا دخلت في الصلاة، صلاة الظهر، فاحملوه واجعلوه في موضعه، فأنا أطوِّل الصلاة، فإذا فرغتم فكبروا حتى  أخفف صلاتي -وكان ذلك في حر شديد- فلما أقيمت الصلاة، كبر ابن الزبير وصلى بهم ركعة،  خرج عباد بالركن من دار الندوة وهو يحمله ومعه جبير بن شيبة بن عثمان -ودار الندوة يومئذ قريبة من الكعبة- فخرقا به الصفوف حتى أدخلاه في الستر الذي دون البناء، فكان الذي وضعه في موضعه هذا عباد بن عبد الله بن الزبير، وأعانه عليه جبير بن شيبة، فلما أقروه في موضعه وطوبق عليه الحجران كبروا، فخفف ابن الزبير صلاته1.
وتسامع الناس بذلك، وغضبت فيه رجال من قريش، حين لم يحضرهم ابن الزبير، وقالوا: والله لقد رفع في الجاهلية حين بنته قريش، فحكموا فيه أول من يدخل عليهم من باب المسجد، فطلع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعله في ردائه، ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل  قبيلة من قريش رجلًا, فأخذوا بأركان الثوب ثم وضعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في  موضعه2.
وكان الركن قد تصدع من الحريق بثلاث فرق، فانشظت منه شظية كانت عند بعض آل شيبة بعد ذلك بدهر طويل، فشده ابن الزبير بالفضة، إلا تلك الشظية من أعلاه -موضعها بين في أعلى  الركن- وطول الركن ذراعان، قد أخذ عرض جدار الكعبة، ومؤخر الركن داخله في الجدر، مضرس على ثلاثة رءوس.
قال ابن جريج: فسمعت من يصف لون مؤخره الذي في الجدر، قال بعضهم: هو مورد، وقال  بعضهم: هو أبيض3.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 72, 73.
2 إتحاف الورى 2/ 74.
3 إتحاف الورى 2/ 74.

ص -166-      قالوا: وكانت الكعبة يوم هدمها ابن الزبير ثمانية عشر ذراعًا في السماء، فلما أن بلغ ابن الزبير بالبناء ثمانية عشر ذراعًا، قصرت بحال الزيادة التي زاد من الحجر فيها، واستسمج ذلك إذ صارت عريضة لا طول لها، فقال: قد كانت قبل قريش تسعة أذرع حتى زادت قريش فيها تسعة أذرع طولًا في السماء، فأنا أزيد تسعة أذرع أخرى، فبناها سبعة وعشرين ذراعًا في السماء، وهي سبعة وعشرون مدماكًا، وعرض جدارها ذراعان، وجعل فيها ثلاث دعائم، وكانت قريش في الجاهلية جعلت فيها ست دعائم، وأرسل ابن الزبير إلى صنعاء فأتى من رخام بها يقال له: البلق، فجعله في الروازن التي في سقفها للضوء، وكان باب الكعبة قبل بناء ابن الزبير مصراعًا واحدًا، فجعل لها1 ابن الزبير مصراعين طولهما أحد عشر ذراعًا من الأرض إلى منتهى أعلاهما اليوم، وجعل الباب الآخر الذي في ظهرها بإزائه على الشاذروان الذي على الأساس مثله، وجعل ميزابها يسكب في الحجر، وجعل لها درجة في بطنها في الركن الشامي من خشب معرجة, يصعد فيها إلى ظهرها.
فلما فرغ ابن الزبير من بناء الكعبة، خَلَّقها من داخلها وخارجها من أعلاها إلى أسفلها، وكساها القُبَاطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، فمن قدر أن ينحر بدنة فليفعل، ومن لم يقدر على بدنة فليذبح شاة، ومن لم يقدر فليتصدق بقدر طوله2.
وخرج ماشيًا وخرج الناس معه مشاة حتى اعتمروا من التنعيم؛ شكرًا لله سبحانه، ولم يُرَ يوم كان  أكثر عتيقًا ولا أكثر بدنة منحورة ولا شاة مذبوحة ولا صدقة من ذلك اليوم، ونحر ابن الزبير مائة بدنة، فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعًا، وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ب: "له".
2 إتحاف الورى 2/ 75.

ص -167-      الشامي والغربي؛ لأن البيت لم يكن تامًّا، فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف به الطائف استلم الأركان جميعًا، ويدخل البيت من هذا الباب ويخرج من الباب الغربي، وأبوابه لاصقة بالأرض، حتى قتل ابن الزبير رحمه الله1.
ودخل الحجاج مكة، فكتب إلى عبد الملك بن مروان، أن ابن الزبير زاد في البيت ما ليس منه، وأحدث فيه بابًا آخر، فكتب إليه يستأذنه في رد البيت على ما كان عليه في الجاهلية، فكتب إليه عبد الملك بن مروان أن سد بابها الغربي الذي كان فتح ابن الزبير، واهدم ما كان زاد فيها من الحجر، واكبسها به على ما كانت عليه، فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبرًا، مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش الذي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما هدم منها، وسد الباب الذي في ظهرها، وترك سائرها لم يحرك منها شيئًا2.
فكل شيء فيها اليوم بناء ابن الزبير، إلا الجدر الذي في الحجر، فإنه بناء الحجاج وسد الباب الذي في ظهرها، وما تحت عتبة الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم إلى الأرض أربعة أذرع وشبر، كل هذا بناء الحجاج، والدرجة التي في بطنها اليوم والبابان اللذان عليها اليوم هما أيضًا من عمل الحجاج.
فلما فرغ الحجاج من هذا كله، وفد بعد ذلك الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة، فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إن قومك استقصروا في بناء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الجامع اللطيف ص87.
2 الجامع اللطيف ص87, 88، إخبار الكرام 146.

ص -168-      البيت، ولولا حداثة عهد قومك بالكفر، أعدت فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه" فأراها قريبًا من سبعة أذرع، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وجعلت لها بابين موضوعين على الأرض: بابا شرقيا يدخل الناس منه، وبابا غربيا يخرج الناس منه" قال عبد الملك بن مروان: أنت سمعتها تقول هذا؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا سمعت هذا منها، قال: فجعل ينكت منكسا بقضيب في يده ساعة طويلة، ثم قال: وددت والله أني تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك.
قال ابن جريج: وكان باب الكعبة الذي عمله ابن الزبير، طوله في السماء أحد عشر ذراعًا، فلما  كان الحجاج نقض من الباب أربعة أذرع وشبرًا، عمل لها هذين البابين وطولهما ستة أذرع وشبر،  فلما كان في خلافة الوليد بن عبد الملك، بعث إلى واليه على مكة خالد بن عبد الله القسري بستة وثلاثين ألف دينار، فضرب منها على بابي الكعبة صفائح الذهب، وعلى ميزاب الكعبة، وعلى الأساطين التي في بطنها، وعلى الأركان في جوفها.
قال أبو الوليد: قال جدي: فكل ما كان على الميزاب وعلى الأركان في جوفها من الذهب، فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من ذهب البيت في الإسلام، فأما ما كان على الباب من عمل الوليد بن عبد الملك من الذهب، فإنه رق وتفرق.
فرفع ذلك إلى أمير المؤمنين محمد بن الرشيد في خلافته، فأرسل إلى سالم بن الجراح عامل كان له  على صوافي مكة، بثمانية عشر ألف دينار ليضرب بها صفائح الذهب على بابي الكعبة، فقلع ما كان على الباب من الصفائح وزاد عليها من الثمانية عشر ألف دينار، فضرب عليه الصفائح التي هي عليه اليوم والمسامير وحلقتي باب الكعبة وعلى الفياريز والعتب, وذلك كله من عمل أمير المؤمنين محمد بن هارون الرشيد، ولم يقلع في ذلك بابي

ص -169-      الكعبة، ولكن ضربت عليهما الصفائح والمسامير وهما على حالهما.
قال أبو الوليد: أخبرني المثنى بن جبير الصواف أنهم حين فرقوا ذهب باب الكعبة، وجدوا فيه ثمانية وعشرين ألف مثقال، فزادوا عليها خمسة عشر ألف دينار، وأن الذي على الباب من الذهب ثلاثة وثلاثون ألف دينار، وقالوا أيضًا: إنه لما قلع الذهب عن الباب ألبس الباب ثوبًا أصفر.
قال ابن جريج: وعمل الوليد بن عبد الملك الرخام الأحمر والأخضر والأبيض الذي في بطنها مؤزرًا به جدراتها، وفرشها بالرخام وأرسل به من الشام، وجعل الجزعة التي تلقى من دخل الكعبة، من بين يدي من قام يتوخى مصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في موضعها، وجعل عليها طوقًا من ذهب. فجميع ما في الكعبة من الرخام فهو من عمل الوليد بن عبد الملك، وهو أول من فرشها بالرخام وأزر به جدراتها، وهو أول من زخرف المساجد.
وحدثني جدي قال: لما جرد حسين بن حسن الطالبي الكعبة في سنة مائتين في الفتنة، لم يبق عليها شيئًا مما كان عليها من الكسوة، فجئت فاستدرت بجوانبها وعددت مداميكها فوجدتها سبعة وعشرين مدماكًا، ورأيت موضع الصلة التي بنى الحجاج مما يلي الحجر، أثر لحم البناء فيها، بين بناء ابن الزبير القديم وبين بناء الحجاج بن يوسف، شبه الصدع، وهو منه كالمتبري بأقل من الأصبع من أعلاها بين، ذلك لمن رآه، ورأيت موضع الباب الذي سده الحجاج في ظهر الكعبة على الحجر الأخضر الذي في الشاذروان، تبين حداته من أعلاه إلى أسفله، ورأيت السد الذي في الباب الشرقي الذي يدخل منه اليوم من العتبة إلى الأرض، وحجارة سد الباب الذي في ظهرها, وما بني من هذا الباب الشرقي ألطف من حجارة مداميك جدران الكعبة بكثير، وكل ذلك بالمنقوش.
حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة بنت

ص -170-      عبد الرحمن بن سعد1 بن زرارة عن عائشة أم المؤمنين عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لها: "يا عائشة, لولا حداثة قومك بالكفر لرددت في الكعبة ما نقصوا منها، ولجعلت لها بابًا آخر".
حدثني جدي قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس, عن عكرمة, عن ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعائشة:
"إذا فتح الله لي إن شاء الله، رددت الكعبة على ما كانت عليه على عهد إبراهيم، فأدخلت من الحجر فيها، وجعلت لها بابًا بالأرض، وجعلت لها بابًا آخر، فإن قريشًا إنما جعلوا الدرجة؛ لأن لا يدخل الناس إلا بإذن".
حدثني جدي قال: حدثنا سفيان بن عيينة, عن داود بن سابور, عن مجاهد، قال: لما عزم ابن الزبير على هدم الكعبة، خرجنا إلى منى ننتظر العذاب ثلاثًا، وأمر ابن الزبير الناس أن يهدموا، فلم يجترئ أحد على هدمها، فلما رآهم لا يقدمون عليها، أخذ هو بنفسه المعول ثم ارتقى فوقها فهدم، فلما رأى الناس أنه لم يصبه شيء اجترءوا على هدمها، قال: فهدموا وأدخل عامة الحجر فيها، فلما ظهر الحجاج رد الذي كان ابن الزبير أدخل من الحجر، فقال عبد الملك بن مروان: وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك, يعني ابن الزبير.
وحدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن الزبير هدم الكعبة وأراهم أساسًا داخلًا في الحجر أخذ بعضه بعضًا، كلما حرك منه شيء تحرك كله، فبنى عليه الكعبة.
حدثني مهدي بن أبي المهدي, عن عيسى بن يونس, عن عبد الله بن مسلم بن هرمز، قال: حدثني يزيد مولى ابن الزبير قال: شهدت ابن الزبير

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرف في الأصول إلى: "أسعد", وصوابه من تقريب التهذيب ص667.

ص -171-      احتفر في الحجر، فأصاب أساس البيت حجارة حمر كأنها الخلايق، تحرك الحجر فيهتز له البيت، فأصاب في الحجر من البيت ستة أذرع وشبرًا، وأصاب فيه موضع قبر، فقال ابن الزبير: هذا قبر إسماعيل، فجمع قريشًا ثم قال لهم: اشهدوا, ثم بنى.
حدثني محمد بن واضح, عن سليم بن مسلم, عن عمر بن قيس, عن سعيد بن مينا -وكان على سوق مكة لابن الزبير- قال: لما أراد ابن الزبير بناء الكعبة عالج الأساس، فإذا وضع الباني العتلة في حجر ارتجت جوانب البيت، فأمسك عنه.
حدثني إبراهيم بن محمد الشافعي, عن سفيان بن عيينة, عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: رأيت ابن الزبير حين هدم الكعبة، أراهم أساسًا آخذًا بعضه ببعض، كلما حرك منه شيء تحرك كله، قال: فرأيت فضل البيت في الحجر، قال سفيان: فذكر نحوًا من ستة أذرع.
حدثني جدي قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن أبي نجيح, عن سليمان بن مينا, عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إذا رأيت قريشًا هدموا البيت ثم بنوه فزوقوه، فإن استطعت أن تموت فمت.
حدثني جدي, عن مسلم بن خالد الزنجي، عن يسار بن عبد الرحمن، قال: شهدت ابن الزبير حين فرغ من بناء البيت كساه القباطي، وقال: من كانت لي عليه طاعة فليخرج فليعتمر من التنعيم، قال: فما رأيت يومًا كان أكثر عتيقًا ولا أكثر بدنة مذبوحة من يومئذٍ.
أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن موسى بن يعقوب, عن عمه، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى وضعه بالأرض، وبناها من أسها وأدخل الحجر عنده، وكان قد احترق، واحترق الخشب والحجارة، وانصدع الركن بثلاث فرق، فرأيته منكسرًا، حتى شده ابن الزبير بالفضة، ثم أدخل الحجر في البيت، ونصب الخشب حول البيت، ثم سترها، وبنوا من وراء

ص -172-      الستر، حتى بلغ الركن الأسود فوضعه وشده بالفضة، ثم رد البيت على بنائه، وزاد في طولها فجعلها سبعة وعشرين ذراعًا، وخلق جوفها، ولطخ جدرها بالمسك حين فرغ منها، وجعل لها بابين موضوعين بالأرض: بابًا في وجهها، وبابًا بإزائه من خلفها، يدخل من هذا الذي في وجهها ويخرج من الآخر، واعتمر حين فرغ من الكعبة، ماشيًا مع رجال من قريش وغيرهم، منهم عبد الله بن  صفوان وعبيد بن عمير.
حدثني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن موسى بن يعقوب عن عمه, عن الحارث بن عبد الله بن وهب بن زمعة، قال: ارتحل الحصين بن نمير من مكة لخمس ليال خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وستين، وأمر ابن الزبير بالخصاص التي كانت حول الكعبة فهدمت، وبالمسجد فكنس مما فيه من الحجارة والدماء، فإذا الكعبة متوهنة ترتج من أعلاها إلى أسفلها، فيها أمثال جيوب النساء من حجارة المنجنيق، وإذا الركن قد اسود واحترق وتفلق من الحريق، فرأيته ثلاث فرق، فشاور ابن  الزبير الناس في هدمها، فأشار عليه جابر بن عبد الله، وعبيد بن عمير بهدمها، وأبى ذلك عليه ابن عباس، وقال: أنا أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها، فلا تزال تهدم وتبنى، فيتهاون الناس بحرمتها، فلا أحب ذلك.
أخبرني محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن شرحبيل عن أبي عون, عن أبيه قال: رأيت الحجر قد انفلق واسود من الحريق، فأنظر إلى جوفه أبيض كأنه الفضة، وقد كان شاور المسور بن مخرمة بن نوفل  قبل أن يموت بهدمها وبنائها، فأشار عليه بذلك.
حدثنا محمد بن يحيى, عن الواقدي, عن عبد الله بن محمد عن أبيه, عن جده، أنه سمع عبد الله بن عمر يسأل نائل بن قيس الجذامي عن الأساس، فقال نائل: اتبعنا الأساس في الحجر فوجدنا أساس البيت واصلًا بالحجر، كأنه أصابعي هذه، وشبك بين أصابعه، فسمعت ابن عمر يكبر

ص -173-      ويحمد الله -عز وجل- على ذلك.
أخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن محمد بن عمرو, عن أبي الزبير، قال: سمعت عبد الرحمن بن سابط يقول: دعانا ابن الزبير خمسين رجلًا من قريش، فنظرنا إلى الأساس، فإذا هو واصل بالحجر مشبك كأصابع يدي هاتين، وشبك بين أصابعه، فقال ابن الزبير: اشهدوا ثم بنى. قال عبد الرحمن بن سابط: فجلست مع ابن عباس فأخبرته، فقال ابن عباس: ما زلنا نعلم أن من البيت في الحجر.
حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن موسى, عن عكرمة بن خالد المخزومي، قال: هدم ابن الزبير البيت حتى سواه بالأرض، وحفر أساسه وأدخل الحجر فيه، وكان الناس يطوفون من وراء الستر ويصلون إلى موضعه، وجعل الركن في تابوت في سرقة من حرير، فأما ما كان من حلي البيت وما وجد فيه من ثياب أو طيب، فإنه جعله عند الحجبة في خزانة الكعبة حتى أعاد بناءها،  قال عكرمة: فرأيت الحجر الأسود، فإذا هو ذراع أو يزيد.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن شرحبيل بن أبي عون, عن أبيه، قال: لما هدم عبد الله بن الزبير البيت، ندم كل من كان أشار عليه وأعظموا ذلك.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن سليمان بن داود بن الحصين, عن أبيه, عن عكرمة عن ابن عباس أنه أبى على ابن الزبير هدمها، وقال: أخاف أن يأتي بعدك من يهدمها، ثم يأتي بعد ذلك آخر، فإذا هي تهدم أبدًا وتبنى، فسكت عبد الله بن الزبير، ولم يقرب ابن عباس مكة حتى فرغ منها.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن موسى, عن عكرمة بن خالد، قال: لما بنى ابن الزبير الكعبة انتهى به إلى الأساس

ص -174-      الأول، وأدخل الحجر فيها، فلما انتهى إلى موضع الركن الأسود، جاء به ابن الزبير وولده حتى رفعوه ووضعوه بأيديهم في ساعة خالية، تحروا بها غفلة الناس نصف النهار في يوم صائف.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن عبد العزيز بن المطلب, عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر، قال: ابن الزبير وضعه وولده نصف النهار في حر شديد، فرأيت قريشًا غضبوا في ذلك.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج عن خلاد بن عطاء, عن أبيه -وكان يعمل في البيت محتسبًا- قال: وكان الركن في تابوت مقفل عليه، فلما كان وقت وضعه وقد نقر له حجران طوبق بينهما، ثم أدخل فيه، فلما فرغ من ذلك خرج ابن الزبير في يوم صائف نصف النهار، فأشار إلى جبير بن شيبة الحجبي، فأدخلاه في موضعه وبنى عليه، قال عطاء أبو خلاد: وأنا حاضر ذلك.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي, عن مسافع الحجبي، قال: لما بنى ابن الزبير البيت حتى بلغ موضع الركن تواعد الحجبة، قال مسافع: وأنا فيهم، فلما دخل ابن الزبير في الصلاة, حسبت الظهر، خرج الحجبة بالركن من الصفوف وأنا فيهم، فرفعناه فجاء حمزة بن عبد الله بن الزبير وأخذ بطرف الثوب فرفع معنا، وأخبرني مسافع أن الركن أخذ عرض الضفير، ضفير البيت.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج وعبد الله بن عمر بن حفص, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي عن أمه، قالت: كان الحجر الأسود قبل الحريق مثل لون المقام، فلما احترق اسودّ، قال: فلما احترقت الكعبة تصدع بثلاث فرق، فشده ابن الزبير بالفضة.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن علي بن زيد عن أبيه، عن جده، قال: رأيت ابن الزبير  هدمها كلها، فلما بنى وفرغ، خلق جوفها

ص -175-      بالعنبر والمسك ولطخ جدرها من خارج بالمسك وسترها بالديباج، وأدخل الحجر فيها ورد الركن الأسود في موضعه، وكان قد انكسر بثلاث فرق من الحريق الذي أصاب الكعبة، وكان الركن عند ابن الزبير في بيته في صندوق عليه قفل، فلما بلغ البناء موضع الركن، جاء ابن الزبير حتى وضعه هو بنفسه وشده بالفضة، فهو مشدود بالفضة واعتمر من خيمة جمانة ماشيًا، فرأى الناس أن قد أحسن ابن الزبير ولبى، حتى نظر إلى البيت.
وأخبرني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن ابن جريج, عن عبد الله بن عبيد بن عمير، قال: وفد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة, على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أن أبا خبيب -يعني ابن الزبير- سمع من عائشة -رضي الله عنها- ما كان يزعم أنه سمعه منها، قال الحارث: أنا سمعته منها، قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"إن قومك استقصروا في بنيان الكعبة، ولولا حداثة قومك بالشرك أعدت فيها ما تركوا منها، فإن بدا لقومك أن يبنوها، فهلمي لأريك ما تركوا من البيت" فأراها قريبًا من سبعة أذرع.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن عطاف بن خالد المخزومي, عن أبيه, عن قبيصة بن ذؤيب، قال: سمعته يقول: لقد كان عبد الملك بن مروان ندم حين هدم البيت, ورده على بنيانه الأول، قال: ليتني كنت حملت ابن الزبير وما تحمل.
حدثنا محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن إبراهيم بن شعيب مولى لقريش، عن المسور بن رفاعة, عن محمد بن كعب القرظي، قال: لما حج سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، طاف بالبيت وأنا إلى جنبه، قال: كيف كان بناء الكعبة حين بناها ابن الزبير؟ فأشار له عمر بن عبد العزيز وهو إلى جنبه، من الشق الآخر إلى ما كان ابن الزبير فعل، وأنه جعل لها بابين، وأدخل الحجر في البيت، فقال سليمان: ليت أن أمير المؤمنين -يعني عبد الملك-

ص -176-      كان ولى ابن الزبير ما تولى من ذلك، فقال له عمر بن عبد العزيز: أما إني قد سمعته يقول: ليت أني تركت ابن الزبير وما تحمل، قال سليمان: أنت سمعته يقول ذلك؟ قال: نعم, ثم التفت إلى محمد بن كعب فقال: كم طولها؟ قال: سبعة وعشرون ذراعًا، قال: وعلى ذلك كانت؟ قال: لا، قال: فكم كانت؟ قال: كانت على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ثمانية عشر ذراعًا، قال: فمن زاد فيها؟ قال: ابن الزبير، قال سليمان: لولا أنه أمر، كان أمير المؤمنين فعله، لأحببت أن أردها على ما بناها ابن الزبير، ثم قال: علي بحجاب البيت، فدخل هو وعمر بن عبد العزيز ومحمد بن كعب القرظي، فجعل سليمان ينظر إلى ما فيها من الحلي، فقال لابن كعب: ما هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين أقره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم فتح مكة، ثم أقره الولاة بعده: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاوية -رضي الله تعالى عنهم- قال: صدقت.
ما جاء في مقلع الكعبة من أين قلع:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا مسلم بن خالد, عن ابن جريج، قال: لما أراد ابن الزبير هدم الكعبة، سأل رجالًا من أهل العلم من أهل مكة: من أين كانت قريش أخذت حجارة الكعبة حين بنتها؟ فأخبر أنهم بنوها من حراء ومن ثبير ومن المقطع، وهو الجبل المشرف على مسجد القاسم بن عبيد  بن خلف بن الأسود الخزاعي، على يمين من أراد المشاش من مكة مشرفًا على الطريق، وإنما سمي المقطع؛ لأنه جبل صلب الحجارة، فكان يوقد بالنار ثم يقطع، ويقال: إنما سمي المقطع؛ لأن أهل الجاهلية من أهل مكة كانوا إذا خرجوا من مكة, قلدوا أنفسهم ورواحلهم من عضاه الحرم، فإذا لقيهم أحد قالوا: هذا من أهل الله، فلا يعرض له، حتى إذا دخلوا الحرم

ص -177-      أمنوا فصاروا عند المقطع، فقطعوا قلائدهم وقلائد رواحلهم التي من عضاه الحرم هنالك، فسمي بذلك المقطع، ومن قافية الخندمة, والخندمة: جبل في ظهر أبي قبيس من ظهرها المشرف على دار أبي صيفي المخزومي في شعب آل سفيان دون شعب الخوز، وذلك الموضع عن يمين من انحدر من الثنية التي يسلك فيها من شعب ابن عامر إلى شعب آل سفيان، ثم إلى منى، وهذا الموضع مرتفع في الجبل، موضع مقلعه بين هذه الثنية وبين الثنية التي تشرف على شعب الخوز، يسلك منها من منى إلى مكة، من سلك شعب الخوز، ومن جبل عند الثنية البيضاء التي في طريق جدة، وهو الجبل المشرف على ذي طوى، ويقال له: حلحلة، قال جدي: ومنه بنيت دار العباس بن محمد التي على الصيارفة بمكة، ومن جبل بأسفل مكة عن يسار من انحدر من ثنية بني عضل، ويقال لهذا الجبل: مقلع الكعبة، ومن مزدلفة من حجر بها يقال له: المفجري، فهذه الجبال السبعة التي يعرفها أهل العلم من أهل مكة، أنها مقلع الكعبة، قال مسلم بن خالد: ولم يثبت عندنا أنها بنيت من غير هذه الأجبل1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أخبار مكة للفاكهي 2/ 180.
في معاليق الكعبة وقرني الكبش, ومن علق تلك المعاليق:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا ابن عيينة, عن منصور بن عبد الرحمن الحجبي, عن خاله مسافع بن شيبة, عن صفية بنت شيبة أن امرأة من بني سليم ولدت عامتهم، قالت لعثمان بن طلحة: لم دعاك1 النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد خروجه من البيت؟ قال: قال لي: "إني رأيت قرني الكبش في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرف في ب إلى: "دعك".

ص -178-      البيت، فنسيت أن آمرك أن تخمرهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل مصليًا" قال عثمان: وهو الكبش الذي فدي به إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام.
حدثني محمد بن يحيى، عن سليم بن مسلم, عن عمرو بن قيس أنه كان يقول: كان قرنا الكبش في الكعبة، فلما هدمها ابن الزبير وكشفها، وجدوهما في جدار الكعبة مطليين بمشق، قال: فتناولهما فلما مسهما، همدا من الأيدي.
قال محمد بن يحيى: عن هشام بن سليمان, عن ابن جريج, عن عبد الله بن شيبة بن عثمان، قال: سألته: هل كان في الكعبة قرنا كبش؟ قال: نعم كان فيها، قلت: رأيتهما؟ قال: حسبت أنه قال: أبي أخبرني أنه رآهما، وعن ابن جريج عن عجوز، قالت: رأيتهما وبهما مغرة.
حدثني محمد بن يحيى، عن الواقدي, عن أشياخه قال: لما فتح عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-  مدائن كسرى، كان مما بعث به إليه هلالان، فبعث بهما فعلقهما في الكعبة، وبعث عبد الملك بن  مروان بالشمستين وقدحين من قوارير وضرب على الأسطوانة الوسطى الذهب من أسفلها إلى  أعلاها صفائح، وبعث الوليد بن عبد الملك بقدحين، وبعث الوليد بن يزيد بالسرير الزينبي1  وبهلالين، وكتب عليهما اسمه، بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبد الله الخليفة الوليد بن يزيد أمير  المؤمنين في سنة إحدى ومائة؛ قال أبو الوليد: أخبرنيه إسحاق بن سلمة الصائغ، أنه قرأ حين خلق الكعبة, وأخبرنيه غير واحد من الحجبة سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
وبعث أبو العباس بالصحفة الخضراء، وبعث أبو جعفر بالقارورة الفرعونية, كل هذا معلق في  البيت، وكان هارون الرشيد قد وضع في

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إخبار الكرام ص167.

ص -179-      الكعبة قصبتين علقهما مع المعاليق في سنة ست وثمانين ومائة، وفيهما بيعة محمد وعبد الله ابنيه وما عقد لهما وما أخذ عليهما من العهود، وبعث المأمون بالياقوتة التي تعلق في كل سنة في وجه الكعبة في الموسم: بسلسلة من ذهب، وبعث أمير المؤمنين جعفر المتوكل بشمسة عملها من ذهب مكللة بالدر الفاخر والياقوت الرفيع والزبرجد بسلسلة من ذهب تعلق في وجه الكعبة في كل موسم1.
حدثني سعيد بن يحيى البلخي، قال: أسلم ملك من ملوك التبت2 وكان له صنم من ذهب يعبده في صورة إنسان، وكان على رأس الصنم تاج من الذهب مكلل بخرز الجوهر والياقوت الأحمر  والأخضر والزبرجد، وكان على سرير مربع مرتفع من الأرض على قوائم، والسرير من فضة، وكان على السرير فرشة الديباج، وعلى أطراف الفرش أزرار من ذهب وفضة مرخاة، والأزرار على قدر الكدن3 في وجه السرير، فلما أسلم ذلك الملك, أهدى السرير والصنم إلى الكعبة، فبعث به إلى أمير المؤمنين عبد الله المأمون هدية للكعبة، والمأمون يومئذ بمرو من خراسان، فبعث به المأمون إلى  الحسن بن سهل بواسط، وأمره أن يبعث به إلى الكعبة، فبعث به مع نصير بن إبراهيم الأعجمي رجل من أهل بلخ من القواد، فقدم به مكة في سنة إحدى ومائتين، وحج بالناس تلك السنة إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى، فلما صدر الناس من منى، نصب نصير بن إبراهيم السرير وما عليه من الفرشة والصنم، في وسط رحبة عمر بن الخطاب، بين الصفا والمروة، فمكث ثلاثة أيام منصوبًا ومعهم لوح من فضة مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إخبار الكرام ص168.
2 التبت: بلاد واسعة على جبال شامخة بين الصين والروس والهند.
3 في الأصول: "الكرين" وفي إتحاف الورى: "الكرير" وفي شفاء الغرام: "الكرسي" ولعل الأولى ما أثبتناه. والكدن بمعنى: الثوب الذي يكون على الخدر والرحل ومركب من مراكب النساء.

ص -180-      هذا سرير فلان ابن فلان ملك التبت، أسلم وبعث بهذا السرير هدية إلى الكعبة، فاحمدوا الله الذي هداه للإسلام، وكان يقف على السرير محمد بن سعيد ابن أخت نصير الأعجمي، فيقرؤه على الناس بكرة وعشية، ويحمد الله الذي هدى ملك التبت إلى الإسلام، ثم دفعه إلى الحجبة، وأشهد عليهم بقبضه، فجعلوه في خزانة الكعبة، في دار شيبة بن عثمان1، حتى استخلف حمدون بن علي بن عيسى بن ماهان -يزيدَ بن محمد بن حنظلة المخزومي على مكة، وخرج إلى اليمن فخالفه إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي إلى مكة مقبلًا من اليمن، فسمع به يزيد بن محمد فخندق على مكة وسكها بالبنيان من أنقابها، وأرسل إلى الحجبة فأخذ السرير وما عليه منهم، فاستعان به على حربه، وقال: أمير المؤمنين يخلفه لها، وضربه دنانير ودراهم، وذلك في سنة اثنتين ومائتين، فبقي التاج واللوح في الكعبة إلى اليوم.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 271، شفاء الغرام 1/ 190.
نسخة ما في اللوح الذي في جوف الكعبة, الذي كان مع السرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، أمر عبد الله الإمام المأمون أمير المؤمنين -أكرمه الله- ذا الرياستين، الفضل بن سهل بالبعثة بهذا السرير من خراسان إلى بيت الله الحرام، في سنة مائتين وهو سرير الأصبهبذ1 كابل شاه بعد مهراب بني دومي كابل شاه، المحمول تاجه إلى مكة المخزون سريره في بيت مال المسلمين، بالمشرق في سنة سبع وتسعين ومائة2.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الأصبهبذ: نائب الولاية، أو أميرها، أو ملكها, وهو هنا: ملك كابل.
2 إتحاف الورى 2/ 274.

ص -181-      ومن نبأ أمر الأصبهبذ، أنه أضعف عليه الخراج والفدية عن بلاد كابل والقندهار1، ونصبت المنابر وبنيت المساجد فيها، وخرج الأصبهبذ كابل شاه، نازلًا عن سريره هذا خاضعًا لله مستسلمًا، حتى حاول حدود كابل وأرض الطخارستان2, ووضع يده في يد صاحب جبل "خراسان"3 ذي الرياستين على ما سامه ذو الرياستين، من خطة الذل للدين ولإمام المسلمين، ثم أقام البريد من القندهار إلى الباميان4، وأضاف بلاد كابل والقندهار إلى بلاد خراسان، وأذعن للوالي مع الجنود مقيمًا حدود الله والإسلام، عاملًا بأحكامه فيه وفيمن اختار الإسلام معه، وأقام على العهد في مملكته، وسير الإمام -أكرمه الله- الرايات الخضر5 على يدي ذي الرياستين إلى القشمير6، وفي ناحية التبت ما سيرها, فأظهره الله سبحانه على بوخان7 وراور8 بلاد بلور صاحب جبل خاقان وجبل التبت، وبعث به إلى العراق مع فرسان التبت، ومن ناحية السرير ما طلب على باراب وشاوغر وزاول، وبلاد أطرار، وقتل قائد الثغر وسبى أولاد جبغويه الخرلخي مع خاتوناته، بعد إحجاره إياه ببلاد كيماك وبعد غلبه ما غلب على مدينة كاسان وبعث بمفاتيح قلاع فرغانة إلى العرب، فمن قرأ هذه السطور فليعن على تعزيز الإسلام وتذليل الشرك بقول أو فعل؛ فإن ذلك واجب على الناس

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القندهار: هي اليوم من ديار الأفغان، وكانت عاصمتها في القديم "هامش ب1/ ص228".
2 الطخارستان: هي ولاية واسعة, تشمل عدة بلاد من نواحي خراسان.
3 من ب.
4 بلدة, وولاية في الجبال بين بلخ وهراة وغزنة.
5 الرايات الخضر: كانت رايات العباسيين سوداء, وفي بعض عهد المأمون جعلها خضراء لغرض سياسي، ثم عاد إلى السواد بعد مدة "هامش إتحاف الورى 2/ 276".
6 القشمير والكشمير: ولاية بين الهند وباكستان وفيها -حاليا- حكومة مستقلة داخليا, وتتبع الحكومة المركزية بالهند "هامش إتحاف الورى 2/ 276".
7 بوخان: يرجح محقق "ب" أنها بوغوخان, ومعناها: أمير الجبل للمقاطعة المعروفة.
8 راور: يقول محقق "ب": إنها مخففة عن راهور فارسية, بمعنى: أمير الطريق, وقد لقب بها أمير بلاد البلور.

ص -182-      تعزيز الدين إذا قامت به الأئمة، ومن أراد الزهد والجهاد وأبواب البر والمعاونة على ما يكسب الإسلام كهذا العز وهذه المفاخر، وقد نسخنا ما كان حفر على صفيحة تاج مهرب بني دومي كابل شاه، في سنة سبع وتسعين ومائة على هذا اللوح, ومن نصر دين الله نصره الله؛ لقوله تبارك وتعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]1.
وكتب الحسن بن سهل, صنو ذي الرياستين في سنة مائتين:
وشخص أمير المؤمنين هارون الرشيد، من الرقة يريد الحج يوم الاثنين لسبع ليالٍ بقين من شهر  رمضان سنة ست وثمانين ومائة، فلم يدخل مدينة السلام، ونزل منزلًا منها على سبعة فراسخ على شاطئ الفرات، يقال له: الدارب وقد بني له بها منزل، ثم شخص خارجًا ومعه الأمين ولي العهد  محمد ابن أمير المؤمنين والمأمون ولي العهد من بعده عبد الله ابن أمير المؤمنين، ومعه جميع وزرائه  وقرابته، فعدل إلى المدينة من الربذة وقدمها، فأقام بها يومين، لم يصنع الأول منهما شيئًا إلا الصلاة في المسجد والتسليم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وجلس في اليوم الثاني في المقصورة حيال المنبر، فأمر بالمقصورة فغلقت كلها، ودعا بدفاتر العطاء، فأخرج يومه ذلك لأهل العطاء ثلاثة  أعطية، وبدأ بالعطاء بنفسه فبودئ باسمه ووزن له عطاؤه فجعله في كمه، ثم فعل ذلك بالأمين  والمأمون، ثم ببني هاشم المبدئين في الدعوة على غيرهم، فأعطوا كذلك عشيتهم.
ثم قام إلى منزله فأصبح غاديًا من المدينة الشريفة إلى مكة المعظمة، فلما قدمها عزل العثماني صهره محمد بن عبد الله عن صلاة مكة، وولى مكانه سليمان بن جعفر بن سليمان، فلما كان قبل التروية بيوم بعد الصبح، صعد المنبر فخطب خطبة الحج، ثم فتح له باب البيت فدخله وحده ليس معه  غيره، وقام مسرور على باب البيت وأجيف أحد المصراعين، فمكث فيه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الخبر بطوله لدى ابن فهد, في إتحاف الورى 2/ 275-277.

ص -183-      طويلًا في جوف الكعبة، ثم دعا بالأمين محمد ولي العهد، فكلمه طويلًا في جوف الكعبة، ثم دعا بالمأمون عبد الله ففعل به مثل ذلك، ثم دعا بسليمان بن أبي جعفر، ثم دعا بالفضل بن الربيع، ثم بعيسى بن جعفر وجعفر بن جعفر وجعفر بن موسى أمير المؤمنين، فدخلوا عليه جميعًا، ثم دخل بعدهم الحارث وأبان ومحمد بن خالد وعبيد بن يقطين ونظراؤهم، ودعا بيحيى بن خالد، ولم يكن حاضرًا، فأتي به معجلًا حتى دخل، ودعا بجعفر بن يحيى، ثم كتب وليا العهد، كل واحد منهما على نفسه، كتابًا لأمير المؤمنين فيما أخذ على كل واحد منهما لصاحبه، وتوكَّد فيه عليهما بخط يده1.
وحضرت الصلاة صلاة الظهر من قبل فراغهم، فنزل أمير المؤمنين، فصلى بهم الظهر ثم عاد إلى الكعبة فكان فيها إلى أن فرغوا من الكتابين، وأحضروا الناس سوى من سمينا: قاضي مكة محمد بن عبد الرحمن المخزومي، وأسد بن عمرو قاضي مدينة الشرقية، وبعض من حجبة البيت، ثم حضرت صلاة العصر عند فراغهم, فنزل أمير المؤمنين فصلى بهم, ثم طافوا سبعًا ثم دخل منزله من دار العجلة وأمر بحشر من حضر من الهاشميين وغيرهم ليشهدوا على الكتابين، وأرسل إلى سليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر وجعفر بن موسى وقد كانوا انصرفوا، فردوا من منازلهم فجاءوا متضجرين، وأخرج إليهم الكتابين وقد وضع عليهما الطين، وليس من الخواتيم إلا خاتما وليي العهد، فقرئا على جميع من حضر ليشهدوا عليهما2، ولم يثبت في الكتابين إلا أسماء من كان في الكعبة، حيث كتب الكتابان ولم يختم غيرهم، ولم يكن الكتابان طُيِّنا ولا طُوِيا ولا خُتِما في جوف الكعبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 234, 235.
2 في الأصول عليه, والمثبت من إتحاف الورى 2/ 235.

ص -184-      ثم أمر أمير المؤمنين بعد أن شهدوا على الكتابين أن يعلقا في داخل الكعبة قبالة بابها مع المعاليق التي فيها حيث يراهما الناس، وضمنهما الحجبة واستحلفهم على حفظهما والقيام بهما وأن يصونوهما ويعلقوهما في وقت الحج منشورين، وصنع لهما قصبتان من ذهب فكللوهما بفصوص الياقوت، والزبرجد، واللؤلؤ، ثم انصرف أمير المؤمنين بعد قضاء نسكه، فسار مقتصدًا لم يعد المراحل حتى وافى الكوفة1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إتحاف الورى 2/ 235, 236.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق