الأحد، 25 نوفمبر 2012

ذكر الفيل حين ساقته الحبشة:

ذكر الفيل حين ساقته الحبشة:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن محمد بن إسحاق أنه قال: لما ظهرت الحبشة على أرض اليمن كان ملكهم إلى أرياط وأبرهة، وكان أرياط فوق أبرهة, فأقام أرياط باليمن سنتين في سلطانه لا ينازعه أحد، ثم نازعه أبرهة الحبشي الملك، وكان في جند من الحبشة فانحاز إلى كل واحد منهما من الحبشة طائفة ثم سار أحدهما إلى الآخر, فكان أرياط يكون بصنعاء ومخاليفها، وكان أبرهة يكون بالجند ومخاليفها.
فلما تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض, أرسل أبرهة إلى أرياط: إنك لا تصنع بأن تلقي الحبشة بعضهم ببعض فتفنيها بيننا، فابرز لي وأبرز لك, فأينا ما أصاب صاحبه انصرف إليه جنده.
فأرسل إليه أرياط: قد أنصفت، فخرج أرياط وكان رجلًا عظيمًا طويلًا وسيمًا وفي يده حربة له, وخرج له أبرهة وكان رجلًا قصيرًا حادرًا لحيمًا دحداحًا, وكان ذا دين في النصرانية؛ وخلف أبرهة عبد له يحمي ظهره يقال له: عتودة؛ فلما دنا أحدهما من صاحبه رفع أرياط الحربة فضرب بها رأس أبرهة يريد يافوخه فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وعينه وأنفه وشفتيه, فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل غلام أبرهة عتودة على أرياط

ص -105-      من خلف أبرهة فزرقه بالحربة فقتله، فانصرف جند أرياط إلى أبرهة, فاجتمعت عليه الحبشة باليمن.
وكان ما صنع أبرهة من قتله أرياط بغير علم النجاشي ملك الحبشة بأرض أكسوم من بلاد الحبش, فلما بلغه ذلك غضب غضبًا شديدًا وقال: عُدي على أميري بغير أمري فقتله, ثم حلف النجاشي لا يدع أبرهة حتى يطأ أرضه ويجز ناصيته. فلما بلغ ذلك أبرهة حلق رأسه ثم ملأ جرابًا من تراب أرض اليمن ثم بعث به إلى النجاشي وكتب إليه: أيها الملك, إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك, اختلفنا في أمرك وكلنا طاعته لك, إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة منه وأضبط وأسوس لهم منه، وقد حلقت رأسي كله حين بلغني قسم الملك وبعثت به إليه مع جراب من تراب أرضي ليضعه تحت قدميه فيبر بذلك قسمه.
فلما انتهى ذلك إلى النجاشي رضي عنه, وكتب له أن اثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري فأقام أبرهة باليمن؛ وبنى أبرهة عند ذلك القليس بصنعاء إلى جنب غمدان, فبنى كنيسة وأحكمها وسماها القليس, وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة: إني قد بنيت لك كنيسة لم يبن مثلها لملك كان قبلك, ولست بمنتهٍ حتى أصرف حاج العرب إليها.
قال أبو الوليد: أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني من أثق به من مشيخة أهل اليمن بصنعاء أن يوسف ذا نواس وهو صاحب الأخدود الذي حرق أهل الكتاب بنجران, لما غرقه الله عز وجل  وجاءت الحبشة إلى أرض اليمن فعبروا من دهلك حتى دخلوا صنعاء وحرقوا غمدان, وكان أعظم قصر يعلم في الأرض وغلبوا على اليمن, وبنى أبرهة الحبشي القليس للنجاشي وكتب إليه: إني قد بنيت لك بصنعاء بيتًا لم تبن العرب ولا العجم مثله, ولن أنتهي حتى أصرف حاج العرب إليه  ويتركوا الحج إلى بيتهم.
فبنى القليس بحجارة قصر بلقيس الذي بمأرب, وبلقيس صاحبة الصرح

ص -106-      الذي ذكره الله في القرآن في قصة سليمان, وكان سليمان حين تزوجها ينزل عليها فيه إذا جاءها فوضع الرجال نسقًا يناول بعضهم بعضًا الحجارة والآلة, حتى نقل ما كان في قصر بلقيس مما احتاج إليه من حجر أو رخام أو آلة للبناء وجد في بنائه, وأنه كان مربعًا مستوي التربيع, وجعل طوله في السماء ستين ذراعًا وكبسه من داخله عشرة أذرع في السماء، وكان يصعد إليه بدرج الرخام وحوله سور بينه وبين القليس مائتا ذراع مطيف به من كل جانب، وجعل بين ذلك كله بحجارة تسميها أهل اليمن الجروب منقوشة مطابقة لا يدخل بين أطباقها الإبرة مطبقة به, وجعل طول ما بنى به من الجروب عشرين ذراعًا في السماء, ثم فصل ما بين حجارة الجروب بحجارة مثلثة تشبه الشرف مداخلة بعضها ببعض حجرًا أخضر، وحجرًا أحمر، وحجرًا أبيض، وحجرًا أصفر، وحجرًا أسود؛ وفيما بين كل ساقين خشب ساسم مدور الرأس غلظ الخشبة حضن الرجل ناتئة على البناء فكان مفصلًا بهذا البناء في هذه الصفة، ثم فصل بإفريز من رخام منقوش طوله في السماء ذراعان، وكان الرخام ناتئًا على البناء ذراعًا، ثم فصل فوق الرخام بحجارة سود لها بريق من حجارة نقم جبل صنعاء المشرف عليها.
ثم وضع فوقها حجارة صفر لها بريق، ثم وضع فوقها حجارة بيض لها بريق، فكان هذا ظاهر حائط القليس، وكان عرض حائط القليس ستة أذرع.
وذكروا أنهم لا يحفظون ذرع طول القليس ولا عرضه، وكان له باب من نحاس عشرة أذرع طولًا في أربعة أذرع عرضًا, وكان المدخل منه إلى بيت في جوفه طوله ثمانون ذراعًا في أربعين ذراعًا, معلق العمل بالساج المنقوش ومسامير الذهب والفضة. ثم يدخل من البيت إلى إيوان طوله أربعون ذراعًا عن يمينه وعن يساره، وعقوده مضروبة بالفسيفساء مشجرة بين أضعافها كواكب الذهب ظاهرة, ثم يدخل من الإيوان إلى قبة ثلاثون ذراعًا في ثلاثين ذراعًا، جدرها بالفسيفساء وفيها صلب منقوشة بالفسيفساء والذهب

ص -107-      والفضة، وفيها رخامة مما يلي مطلع الشمس من البلق مربعة عشرة أذرع في عشرة أذرع, تغشي عين من نظر إليها من بطن القبة, تؤدي ضوء الشمس والقمر إلى داخل القبة.
وكان تحت الرخامة منبر من خشب اللبخ -وهو عندهم الأبنوس- مفصل بالعاج الأبيض، ودرج المنبر من خشب الساج ملبسة ذهبًا وفضة.
وكان في القبة سلاسل فضة, وكان في القبة أو في البيت خشبة ساج منقوشة طولها ستون ذراعًا يقال لها: كعيب, وخشبة من ساج نحوها في الطول يقال لها: امرأة كعيب, كانوا يتبركون بهما في الجاهلية, وكان يقال لكعيب: الأحوزي, والأحوزي بلسانهم الحر.
وكان أبرهة عند بناء القليس قد أخذ العمال بالعمل أخذًا شديدًا, وكان آلى أن لا تطلع الشمس على عامل لم يضع يده في عمله فيؤتى به إلا قطع يده. قال: فتخلف رجل ممن كان يعمل فيه حتى طلعت الشمس وكانت له أم عجوز فذهب بها معه لتستوهبه من أبرهة، فأتته وهو بأزز1 للناس فذكرت له علة ابنها واستوهبته منه فقال: لا أكذب نفسي ولا أفسد علي عمالي, فأمر بقطع يده فقالت له أمه: اضرب بمعولك ساعي بهر، اليوم لك وغدًا لغيرك، ليس كل الدهر لك. فقال: ادنوها فقال لها: إن هذا الملك أيكون لغيري؟ قالت: نعم.
وكان أبرهة قد أجمع أن يبني القليس حتى يظهر على ظهره فيرى منه بحر عدن فقال: لا أبني حجرًا على حجر بعد يومي هذا, وأعفى الناس من العمل، وتفسير قولها: ساعي بهر تقول: اضرب بمعولك ما كان حديدًا، فانتشر خبر بناء أبرهة هذا البيت في العرب فدعا رجل من النساءة من بني مالك بن كنانة فتبين منهم فأمرهما أن يذهبا إلى ذلك البيت الذي بناه أبرهة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في أ، والعبارة ساقطة من الأصل، وفي ب: "وهو بارز للناس" والأزز: الجمع الكثير المزدحم.

ص -108-      بصنعاء فيحدثا فيه فذهب بهما ففعلا ذلك، فدخل أبرهة البيت فرأى أثرهما فيه فقال: من فعل هذا؟ فقيل: رجلان من العرب فغضب من ذلك, وقال: لا أنتهي حتى أهدم بيتهم الذي بمكة.
قال: فساق الفيل إلى بيت الله الحرام ليهدمه, فكان من أمر الفيل ما كان.
فلم يزل القليس على ما كان عليه حتى ولى أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين العباس بن الربيع بن عبيد الله الحارثي اليمن فذكر العباس ما في القليس من النقض والذهب والفضة وعظم ذلك عنده, وقيل له: إنك تصيب فيه مالًا كثيرًا وكنزًا فتاقت نفسه إلى هدمه وأخذ ما فيه, فبعث إلى ابن لوهب بن منبه فاستشاره في هدمه وقال: إن غير واحد من أهل اليمن قد أشاروا علي أن لا أهدمه, وعظم على أمر كعيب وذكر أن أهل الجاهلية كانوا يتبركون به وأنه كان يكلمهم ويخبرهم بأشياء مما يحبون ويكرهون.
قال ابن وهب: كل ما بلغك باطل, وانما كعيب صنم من أصنام الجاهلية فتنوا به, فمر بالدهل -وهو الطبل- وبمزمار فليكونا قريبا ثم اعله الهدامين، ثم مرهم بالهدم فإن الدهل والمزمار أنشط لهم، وأطيب لأنفسهم، وأنت مصيب من نقضه مالا عظيمًا مع أنك تثاب من الفسقة الذين حرقوا غمدان, وتكون قد محوت عن قومك اسم بناء الحبش وقطعت ذكرهم.
وكان بصنعاء يهودي عالم, قال: فجاء قبل ذلك إلى العباس بن الربيع يتقرب إليه فقال له: إن ملكًا يهدم القليس يلي اليمن أربعين سنة قال: فلما اجتمع له قول اليهودي ومشورة ابن وهب بن منبه أجمع على هدمه.
قال أبو الوليد: فحدثني الثقة قال: شهدت العباس وهو يهدمه فأصاب منه مالًا عظيمًا, ثم رأيته دعا بالسلاسل فعلقها في كعيب والخشبة التي معه فاحتملها الرجال فلم يقربها أحد مخافة لما كان أهل اليمن يقولون فيها, فدعا بالورديين -وهي العجل- فأعلق فيها السلاسل ثم جبذها الثيران

ص -109-      وجبذها الناس معها حتى أبرزوها من السور, فلما أن لم ير الناس شيئًا مما كانوا يخافون من مضرتها وثب رجل من أهل العراق كان تاجرًا بصنعاء فاشترى الخشبة وقطعها لدار له, فلم يلبث العراقي أن جذم فقال رعاع الناس هذا لشرائه كعيبًا. قال: ثم رأيت أهل صنعاء بعد ذلك يطوفون بالقليس, فيلقطون منه قطع الذهب والفضة.
ثم رجع إلى حديث ابن إسحاق قال: فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة بذلك إلى النجاشي, غضب رجل من النساءة أحد بني فقيم, من بني مالك بن كنانة, فخرج حتى أتى القليس فقعد فيها -أي أحدث فيها- ثم خرج حتى لحق بأرضه فأخبر بذلك أبرهة فقال: من صنع هذا؟ فقيل له: صنعه رجل من العرب من أهل البيت الذي تحج العرب إليه بمكة؛ لما سمع بقولك: أصرف إليها حاج العرب فغضب فجاءها فقعد فيها أي: إنها ليست لذلك بأهل، فغضب عند ذلك أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه, ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت, ثم سار وخرج بالفيل معه.
فسمعت بذلك العرب فأعظموه وقطعوا به, ورأوا أن جهاده حق عليهم حين سمعوا أنه يريد هدم الكعبة بيت الله الحرام, فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له: ذو نفر فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وإلى مجاهدته عن بيت الله الحرام وما يريد من هدمه وإخراجه, فأجابه من أجابه إلى ذلك ثم عرض له فقاتله فهزم ذو نفر فأتي به أسيرًا, فلما أراد قتله قال له ذو نفر: أيها الملك لا تقتلني, فعسى أن يكون مقامي معك خيرًا لك من قتلي, فتركه من القتل وحبسه عنده في وثاق, وكان أبرهة رجلًا حليمًا ورعًا ذا دين في النصرانية.
ومضى أبرهة على وجهه ذلك يريد ما خرج إليه حتى إذا كان في أرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي في قبائل خثعم: شهران وناهس ومن اتبعه من قبائل العرب فقاتله فهزمه أبرهة,  وأخذ له نفيل أسيرًا فأتي به

ص -110-      فقال له نفيل: أيها الملك لا تقتلني, فإني دليلك بأرض العرب وهاتان يداي على قبائل خثعم: شهران وناهس بالسمع والطاعة, فأعفاه وخلى سبيله وخرج به معه يدله.
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معتب في رجال ثقيف فقالوا له: أيها الملك إنما نحن عبيدك سامعون لك مطيعون وليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا بالبيت الذي تريد يعنون اللات, إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم, وبعثوا معه أبا رغال يدله على مكة.
فخرج أبرهة ومعه أبو رغال حتى أنزلهم بالمغمس, فلما أنزله به مات أبو رغال هنالك فرجمت العرب قبره فهو قبره الذي يرجم بالمغمس, وهو الذي يقول فيه جرير بن الخطفي:
إذا مات الفرزدق فارجموه       كما ترمون قبر أبي رغال
فلما نزل أبرهة المغمس بعث رجلًا من الحبشة يقال له: الأسود بن مقصود1 على خيل له حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم, فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم وهو يومئذ كبير قريش وسيدها, فهمَّت قريش وخزاعة وكنانة وهذيل ومن كان في الحرم بقتاله ثم عرفوا أنه لا طاقة لهم به فتركوا ذلك.
وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة فقال له: سل عن سيد أهل هذا البلد وشريفهم ثم قل لهم: إن الملك يقول لكم: إني لم آت لحربكم, إنما جئت لهدم هذا البيت, فإن لم تعرضوا لي بقتال فلا حاجة لي بدمائكم, فإن هو لم يرد حربي فأتني به.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل وسيرة ابن هشام 1/ 48. وفي أ، ب: "مفصود" بالفاء.

ص -111-      فلما دخل حناطة مكة سأل عن سيد قريش وشريفها فقيل له: عبد المطلب, فأرسل إلى عبد المطلب فقال بما قال أبرهة, فقال عبد المطلب: والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت إبراهيم خليله -عليه السلام- أو كما قال, فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه, وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع "عنه"1.
فقال له حناطة: فانطلق "معي"1 إليه, فإنه قد أمرني أن آتيه بك. فانطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان له صديقًا حتى دخل عليه وهو في محبسه فقال: يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا؟ قال ذو نفر: وما غناء رجل أسير في يدي ملك ينتظر أن يقتله بكرة أو عشية، ما عندي غناء في شيء مما نزل بك إلا أن أنيسًا سايس الفيل صديق لي فسأرسل  إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك ويكلمه فيما بدا لك, ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك، قال: حسبي.
فبعث ذو نفر إلى أنيس فقال له: إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رءوس الجبال, وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وانفعه عنده بما استطعت فقال: أفعل فكلم أنيس أبرهة فقال له: أيها الملك هذا سيد قريش ببابك يستأذن عليك وهو صاحب عير مكة, وهو يطعم الناس بالسهل والجبل والوحوش في رءوس الجبال, فأذن له عليك فليكلمك في حاجته, فأذن له أبرهة، وكان عبد المطلب أوسم الناس وأعظمهم وأجملهم2 فلما رآه أبرهة أجله وأكرمه عن أن يجلسه تحته وكره أن تراه الحبشة معه على سريره, فنزل أبرهة عن سريره فجلس على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ثم قال لترجمانه: قل له: ما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من الروض الأنف.
2 كذا في ب، ومثله لدى ابن هشام في السيرة 1/ 49. وفي أ: "وأعظمه وأجمله".

ص -112-      حاجتك؟ قال له الترجمان: إن الملك يقول لك: ما حاجتك؟ قال: حاجتي أن يرد الملك علي مائتي بعير أصابها لي, فلما قال له ذلك قال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني، تكلمني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك وقد جئت لهدمه لا تكلمني فيه! قال عبد المطلب: إني أنا رب إبلي, وإن للبيت ربا سيمنعه, قال: ما كان ليمتنع مني قال: أنت وذاك.
قال ابن إسحاق: وقد كان فيما يزعم بعض أهل العلم, قد ذهب مع عبد المطلب إلى أبرهة حين بعث إليه حناطة الحميري, يعمر بن نفاثة بن عدي بن الدئل1 بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد بني بكر وخويلد بن واثلة الهذلي وهو يومئذ سيد هذيل, فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم ولا يهدم البيت فأبى عليهم. والله أعلم أكان ذلك أم لا، وقد كان أبرهة رد على عبد المطلب الإبل التي كان أصاب.
فلما انصرفوا عنه انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر, وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في شعف الجبال خوفًا عليهم من معرة الجيش, ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من قريش يدعون الله عز وجل ويستنصرونه على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
يا رب إن المرء يمـ        ـنع رحله فامنع حلالك2

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الطبري، وهو بضم الدال وكسر الهمزة، وفي سائر الأصول: "الديل" وما أثبتناه هو الذي عليه جمهور العلماء, إلا أن جماعة من النحويين، ومنهم الكسائي يقولون فيه: "الديل" من غير همز، ويكسرون الدال, والمعروف أن الدئل "بالهمز" هم الذين في كنانة، وكذلك هم في الهون بن خزيمة أيضًا. وأما الديل "من غير همز" فهم في الأزد، وفي إياد، وفي عبد القيس، وفي تغلب. وهناك غير هذين "الدول" أيضًا "بضم الدال وإسكان الواو" وهؤلاء في ربيعة من نزار، وفي عنزة، وفي ثعلبة وفي الرباب "راجع لسان العرب مادة: دأل".
2 الحلال -بالكسر- جمع حلة، وهي جماعة البيوت، ويريد هنا: القوم الحلول، والحلال أيضًا: متاع البيت, وجائز أن يكون هذا المعنى الثاني مرادًا هنا.

ص -113-              لا يغلبن صليبهم   ومحالهم غدوا1 محالك2
إن كنت تاركهم وقبـ       ـلتنا فأمر ما بدا لك3
ولئن فعلت فإنه            أمر يتم به فعالك
ثم أرسل عبد المطلب حلقة باب الكعبة, وانطلق هو ومن معه من قريش إلى شعف الجبال فتحرزوا فيها ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها, وقال عبد المطلب أيضًا:
قلت والأشرم تردى خيله          إن ذا الأشرم غر بالحرم
كاده تبع فيما جندت       حمير والحي من آل قدم
فانثنى عنه وفي أوداجه           خارج4 أمسك منه بالكظم
نحن أهل اللّه في بلدته           لم يزل ذاك على عهد إبرهم5
نعبد اللّه وفينا شيمة      صلة6 القربى وإيفاء الذمم
إن للبيت لربا مانعا         من يرده بأثام يصطلم
يعني إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.
ولما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبأ جيشه, وكان اسم الفيل محمودًا, وأبرهة مجمع لهدم الكعبة ثم الانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي حتى قام إلى جنب الفيل فالتقم

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تحرف في أ، ب إلى "عدوا" بالعين المهملة, وصوابه من الأصل وابن هشام. وغدوا: غدا، وهو اليوم الذي يأتي بعد يومك، فحذفت لأمه، ولم يستعمل تاما إلا في الشعر.
2 المحال: القوة والشدة.
3 في الأصل أ: "فلئن فعلت فربما أولا فأمر بذلك" وهو غير صحيح عروضيا, والمثبت رواية ب، وابن هشام 1/ 51.
4 كذا في الأصل أ، ومنائح الكرام 1/ 440. وفي ب: "حارج" بالحاء المهملة.
5 كذا في الأصل أ، ومنائح الكرام 1/ 440. وفي ب: "إبراهيم".
6 كذا في الأصل ب. وفي أ "ضلة" بالضاد.
ص -114-      أذنه فقال: ابرك محمود وارجع راشدًا من حيث جئت, فإنك في بلد الله الحرام، ثم أرسل أذنه فبرك الفيل وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد في الجبل, وضربوا الفيل ليقوم فأبى, فضربوا رأسه بالطبرزين فأبى, فأدخلوا محاجن لهم في مراقه فبزغوه بها ليقوم فأبى, فوجهوه راجعًا إلى اليمن فقام يهرول، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك, فوجهوه إلى مكة فبرك.
وأرسل الله عليهم طيرًا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها, حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب أحدًا منهم إلا هلك، وليس كلهم أصابت وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق التي منها جاءوا ويسألون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن, فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته:
أين المفر والإله الطالب          والأشرم المغلوب غير الغالب!1
وقال نفيل أيضًا حين ولوا, وعاينوا ما نزل بهم2:
ألا حييت عنا يا ردينا           نعمناكم مع الإصباح عينا
ردينة لو رأيت ولن تريه        لدى جنب المحصب ما رأينا
إذن لعذرتني وحمدت أمري           ولم تأسي على ما فات بينا
حمدت اللّه إذ عاينت طيرًا             وخفت حجارة تلقى علينا
وكل القوم يسأل عن نفيل            كأن عليّ للحبشان دينا
فخرجوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون "بكل مهلك" على كل منهل، وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط "أنامله" أنملة أنملة، كلما

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تاريخ الطبري 2/ 136.
2 ابن هشام 1/ 53.

ص -115-      سقطت منه أنملة أتبعتها منه مدة تمث1 قيحًا ودمًا, حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر [فما مات] حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون2.
وأقام بمكة فلال من الجيش وعسفاء وبعض من ضمه العسكر، فكانوا بمكة يعتملون ويرعون لأهل مكة.
قال ابن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حدث أن أول ما رئيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام، وأنه أول ما رئي بها من مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر من ذلك العام3.
قال أبو الوليد: وقال بعض المكيين: إنه أول ما كانت بمكة حمام اليمام حمام مكة الحرمية ذلك الزمان، يقال: إنها من نسل الطير التي رمت أصحاب الفيل, حين خرجت من البحر من جدة.
ولما هلك أبرهة، ملك الحبشة ابنه يكسوم بن أبرهة وبه كان يكنى، ثم ملك بعد يكسوم أخوه مسروق بن أبرهة، وهو الذي قتلته الفرس حين جاءهم سيف بن ذي يزن وكان آخر ملوك الحبشة, وكانوا أربعة, فجميع ما ملكوا أرض اليمن من حين دخلوها إلى أن قتلوا ثلاثون سنة.
ولما رد الله سبحانه عن مكة الحبشة وأصابهم ما أصابهم من النقمة, أعظمت العرب قريشًا وقالوا: أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مئونة عدوهم، فجعلوا يقولون في ذلك الأشعار يذكرون فيها ما صنع الله بالحبشة, وما دفع عن قريش من كيدهم4. ويذكرون الأشرم والفيل ومساقه إلى الحرم، وما أراد من هدم البيت واستحلال حرمته.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في الأصل أ: "تمد" والمثبت رواية ب، وابن هشام. ومث يمث: رشح.
2 ابن هشام 1/ 54 وما بين حاصرتين منه.
3 ابن هشام 1/ 54.
4 ابن هشام 1/ 57.

ص -116-      حزم, عن عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة, عن عائشة أم المؤمنين قالت: رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان [الناس]1.
قال ابن إسحاق: فلما قتلت الحبش ورجع الملك إلى حمير, سُرَّت بذلك جميع العرب لرجوع الملك فيها وهلاك الحبشة، فخرجت وفود العرب جميعها لتهنئة سيف بن ذي يزن، فخرج وفد قريش، ووفد ثقيف، وعجز هوازن وهم: نصر وجشم وسعد بن بكر, ومعهم وفد عدوان وفهم ابني عمرو بن قيس فيهم مسعود بن معتب، ووفد غطفان، ووفد تميم، وأسد، ووفد قبائل قضاعة والأزد فأجازهم وأكرمهم, وفضل قريشًا عليهم في الجائزة لمكانهم في الحرم, وجوارهم بيت الله تعالى.
قال أبو الوليد: وحدثني عبد الله بن شبيب الربعي، قال: حدثنا عمرو بن بكر بن بكار قال: حدثني أحمد بن القاسم الربعي مولى قيس بن ثعلبة, عن الكلبي, عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلك بعد مولد النبي -صلى الله عليه وسلم- بسنتين, أتاه وفود العرب وأشرافها وشعراؤها لتهنئته وتمدحه, وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه، فأتاه وفد قريش  وفيهم عبد المطلب بن هاشم, وأمية بن عبد شمس، وخويلد بن أسد في ناس من وجوه قريش من  أهل مكة فأتوه بصنعاء وهو في قصر له يقال له: غمدان، وهو الذي يقول فيه الشاعر أبو الصلت الثقفي أبو أمية بن أبي الصلت2:
لا تطلب الثأر إلا كابن ذي يزن          خيَّم في البحر للأعداء أحوالا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ابن هشام 1/ 57, وما بين حاصرتين منه.
2 ابن هشام 1/ 65, والطبري 2/ 147.

ص -117-              أتى هرقلا وقد شالت نعامتهم          فلم يجد عنده النصر الذي سالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة      من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهم         تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
بيض مرازبة غلب أساورة         أسد يربين في الغيضات أشبالا
للّه درهم من فتية صبر           ما إن رأيت لهم في الناس أمثالا
لا يضجرون وإن جزت1 مغافرهم          ولا ترى منهم في الطعن ميالا
أرسلت أسدًا على سود الكلاب فقد   أضحى شريدهم في الناس فلالا
فاشرب هنيئًا عليك التاج مرتفعا        في رأس غمدان دارًا منك محلالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن            شيبا بماء فعادا بعد أبوالا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، وفي أ: "حَرَّت" وفي ب: "حزت" والمغفر: زرد ينسج من الدروع على قدر  الرأس، يلبس تحت القلنسوة.
ص -118-              فالتطّ بالمسك إذ شالت نعامتهم       وأسبل اليوم في برديك إسبالا
فاستأذنوا عليه فأذن لهم, فإذا الملك متضمخ بالعنبر يلصف1 ووميض المسك من مفرقه إلى قدمه وسيفه بين يديه، وعن يمينه وعن يساره الملوك وأبناء الملوك, فدنا عبد المطلب فاستأذن في الكلام فقال له سيف بن ذي يزن: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك فقد أذنا لك, فقال له عبد المطلب: إن الله -عز وجل- قد أحلك أيها الملك محلًّا رفيعًا، صعبًا، منيعًا، شامخًا، باذخًا، وأنبتك منبتًا طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه، في أكرم معدن، وأطيب موطن، وأنت أبيت  اللعن رأس العرب، وربيعها الذي تخصب به، وأنت أيها الملك رأس العرب الذي له تنقاد, وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي تلجأ إليه العباد، سلفك خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف2، فلن يخمد ذكر من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه.
أيها الملك, نحن أهل حرم الله وسدنة بيته, أشخصنا إليك الذي أبهجنا لكشفك الكرب الذي فدحنا, فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة.
قال: وأيهم أنت أيها المتكلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف, قال: ابن أختنا! قال: نعم. قال: ادنُ، فأدناه ثم أقبل عليه وعلى القوم فقال: مرحبًا وأهلًا, وناقة ورحلا، ومستناخًا سهلًا،  وملكًا ربحلًا3 يعطي عطاء جزلًا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم, فأنتم  أهل الليل والنهار، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم؛ قال: ثم قال: انهضوا إلى دار

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل ب, وفي أ: "بلصف" ولصف: برق وتلألأ.
2 كذا في الأصل ب, وفي أ: "حلف".
3 الربحل كقمطر: العظيم الشأن من الناس.
ص -119-      الضيافة والوفود، فأقاموا شهرًا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم في الانصراف.
قال: وأجرى عليهم الأنزال ثم انتبه لهم انتباهة, فأرسل إلى عبد المطلب فأدناه وأخلى مجلسه ثم قال: يا عبد المطلب, إني مفوض إليك من سر علمي أمرًا لو غيرك يكون لم أبح به له، ولكني وجدتك معدنه فأطلعتك طلعه, وليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه, فإن الله بالغ فيه أمره، إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا واحتجناه دون غيرنا, خبرًا جسيمًا، وخطرًا عظيمًا فيه شرف للحياة، وفضيلة للناس عامة, ولرهطك كافة, ولك خاصة.
قال: أيها الملك مثلك سر وبر, فما هو فداك أهل الوبر والمدر زمرًا بعد زمر؟ قال: فإذا ولد بتهامة غلام به علامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة.
فقال له عبد المطلب: أبيت اللعن, لقد أتيت بخبر ما آب بمثله وافد قوم، ولولا هيبة الملك وإعظامه وإجلاله لسألته من سارة آبائي ما أزداد به سرورًا، فإن رأى الملك أن يخبرني بإفصاح فقد أوضح لي بعض الإيضاح.
قال: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد, اسمه محمد, بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه ويكفله جده وعمه، وقد ولدناه مرارًا, والله باعثه جهارًا، وجاعل له منا أنصارًا، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، يعبد الرحمن، ويدخر الشيطان، ويكسر الأوثان, ويخمد النيران، قوله فضل1، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
قال: فخر عبد المطلب ساجدًا, فقال له: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا كعبك، فهل أحسست من أمره شيئًا؟ قال: نعم أيها الملك، كان لي ابن

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ب: "فصل".

ص -120-      وكنت به معجبًا وعليه رفيقًا, فزوجته كريمة من كرائم قومه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فجاءت بغلام سميته محمدًا، مات أبوه وأمه وكفلته أنا وعمه، بين كتفيه شامة، وفيه كل ما ذكرت من علامة.
قال له: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك يا عبد المطلب لجده غير الكذب، وإن الذي قلت لكما قلت, فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء, ولن يجعل الله تعالى لهم عليه سبيلا، فاطو ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة، من أن تكون لك الرياسة, فيبتغون لك الغوائل، وينصبون لك الحبائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم, ولولا أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي، حتى أصير بيثرب دار مملكته، فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصره، وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأوطأت أسنان العرب كعبه، ولأعليت على حداثة سنه ذكره، ولكني صارف ذلك إليك، عن غير تقصير بمن معك.
ثم أمر لكل رجل منهم بمائة من الإبل, وعشرة أعبد، وعشر إماء، وعشرة أرطال ذهب، وعشرة أرطال فضة, وكرش مملوءة عنبرًا، وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك, ثم قال له: ائتني بخبره، وما يكون من أمره عند رأس الحول, فمات سيف بن ذي يزن من قبل أن يحول الحول.
وكان عبد المطلب يقول: أيها الناس, لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاد، ولكن ليغبطني بما يبقى لي ولعقبي شرفه وذكره وفخره, فإذا قيل له: وما ذاك؟
يقول: ستعلمن ولو بعد حين. وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس:
جلبنا النصح نحقبها المطايا        إلى أكوار أجمال ونوق

ص -121-          مغلغلة مراتعها تعالى إلى صنعاء من فج عميق
تؤم بنا ابن ذي يزن وتفري            ذوات بطونها أم الطريق
ونرعى من مخايلها بروقا              مواقفة الوميض إلى بروق
ولما واقفت صنعاء صارت      بدار الملك والحسب العريق
قال أبو الوليد: وقد ذكر الله تعالى الفيل وما صنع بأصحابه فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ  بِأَصْحَابِ الْفِيلِ...} إلى آخرها, ولو لم ينطق القرآن به لكان في الأخبار المتواطئة والأشعار المتظاهرة في الجاهلية والإسلام حجة وبيان لشهرته, وما كانت العرب تؤرخ به فكانوا يؤرخون في كتبهم وديوانهم من سنة الفيل. وفيها ولد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم تزل قريش والعرب بمكة جميعًا تؤرخ بعام الفيل، ثم أرخت بعام الفجار، ثم أرخت ببنيان الكعبة فلم تزل تؤرخ به حتى جاء الله بالإسلام, فأرخ المسلمون من عام الهجرة، ولقد بلغ من شهرة أمر الفيل وصنع الله  بأصحابه واستفاضة ذلك فيهم حتى قالت عائشة -رضي الله عنها- على حداثة سنها: لقد رأيت  قائد الفيل وسائسه أعميين ببطن مكة يستطعمان, وقد ذكر غير واحد من أحداث قريش أنه رآهما أعميين.
ص -122-      ما جاء في شواهد الشعر في ذلك:
قال أبو الطفيل الغنوي وهو جاهلي:
ترعى مذانب وسمي أطاع لها      بالجزع حيث عصى أصحابه الفيل
وقال صيفي بن عامر -وهو أبو قيس بن الأسلت الخزرجي, وهو جاهلي- يعنى قريشًا1:
فقوموا فصلوا ربكم وتمسحوا       بأركان هذا البيت بين الأخاشب
فعندكم منه بلاء ومصدق            غداة أبي يكسوم هادي الكتائب
فلما أجازوا بطن نعمان ردهم       جنود المليك بين ساف وحاصب
فولوا سراعا نادمين ولم يؤب       إلى أهله ملحبش2 غير عصائب
وقال أبو قيس بن الأسلت3:
ومن صنعه يوم فيل الحبو       ش إذ كلما بعثوه رزم
محاجنهم تحت أقرابه            وقد شرموا أنفه فانخرم4
وقد جعلوا سوطه مغولا         إذا يمموه قفاه كلم
فأرسل من فوقهم حاصبا       يلفهم مثل لف القزم
يحث على الطير أجنادهم      وقد ثأجوا كثوَّاج الغنم
وقال أبو الصلت الثقفي, وهو جاهلي5:
إن آيات ربنا بينات          ما يماري فيهن إلا كفور
حبس الفيل بالمغمس حتى              ظل يحبو كأنه معقور
واضعًا خلفه الجران كما قطِّـ       ـر صخر من كبكب محدور
وقال المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سيرة ابن هشام 1/ 59.
2 كذا في الأصل وسيرة ابن هشام، يريد: من الحبش, وفي أ: "ملجيش" وفي ب: "بالجيش".
3 سيرة ابن هشام 1/ 58.
4 كذا في سيرة ابن هشام, وفي الأصول: "وقد كلموا أنفه بالخزم".
5 سيرة ابن هشام 1/ 60.

ص -123-         أنت حبست الفيل بالمغمس     حبسته كأنه مكردس
من بعد ما هم بشر مجلس         بمحبس ترهق فيه الأنفس
وقت بثاث ربنا لم تدنس              يا واهب الحي الجميع الأحمس
وما لهم من طارق ومنفس          وجاره مثل الجواري الكنس
أنت لنا في كل أمر مضرس          وفي هنات أخذت بالأنفس
وقال ابن الذئبة1 الثقفي2:
لعمرك ما للفتى من مفرّ            مع الموت يلحقه والكبر
لعمرك ما للفتى صحرة3             لعمرك ما إن له من وزر
أبعد قبائل من حمير          أتوا ذات صبح بذات العبر
بألف ألوف وحرابة             كمثل السماء قبيل المطر
يصم صراحهم المقربات              ينفون من قاتلوا بالذفر
سعالى مثل عديد الترا      ب تيبس منها رطاب الشجر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في السيرة لابن هشام ولديه موضحًا: الذئبة: أمه واسمه: ربيعة بن عبد باليل بن سالم بن  مالك بن حطيط بن جشم بن قسي. وفي الأصول: "أذينة".
2 سيرة ابن هشام 1/ 39.
3 كذا في سيرة ابن هشام. والصحرة: المتسع، أخذ من لفظ الصحراء. وفي الأصول: "عصرة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق