الأحد، 25 نوفمبر 2012

باب ما جاء في ولاية قصي بن كلاب البيت الحرام, وأمر مكة بعد خزاعة, وما ذكر من ذلك:

        باب ما جاء في ولاية قصي بن كلاب البيت الحرام, وأمر مكة بعد خزاعة, وما ذكر من ذلك:
حدثنا أبو الوليد قال: حدثني جدي, قال: حدثنا سعيد بن سالم, عن عثمان بن ساج, عن ابن جريج وعن ابن إسحاق -يزيد أحدهما على صاحبه- قالا: أقامت خزاعة على ما كانت عليه من ولاية البيت والحكم بمكة ثلاثمائة سنة, وكان بعض التبابعة قد سار إليه وأراد هدمه وتخريبه, فقامت دونه خزاعة فقاتلت عليه أشد القتال حتى رجع ثم آخر فكذلك, وأما التبع الثالث الذي نحر له وكساه وجعل له غلقًا وأقام عنده أيامًا ينحر كل يوم مائة بدنة, لا يرزأ هو ولا أحد من أهل عسكره شيئًا منها يردها الناس في الفجاج والشعاب, فيأخذون منها حاجتهم ثم تقع عليها الطير فتأكل, ثم تنتابها السباع إذا أمست لا يرد عنها إنسان ولا طير ولا سبع ثم رجع إلى اليمن, إنما كان في عهد قريش.
فلبثت خزاعة على ما هي عليه وقريش إذ ذاك في بني كنانة متفرقة, وقد قدم في بعض الزمان حاج قضاعة فيهم ربيعة بن حرام بن ضبة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد بن زيد, وقد هلك كلاب  بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وترك زهرة وقصيا ابني كلاب مع أمهما فاطمة بنت عمرو بن سعد بن سيل، وسعد بن سيل الذي يقول فيه الشاعر وكان أشجع أهل زمانه:
لا أرى في الناس شخصًا واحدًا          فاعلموا ذاك كسعد بن سيل
فارس أضبط فيه عسرة           فإذا ما عاين القرن نزل
فارس يستدرج الخيل كما       يدرج الحر القطامي الحجل
وزهرة أكبرهما, فتزوج ربيعة بن حرام أمهما وزهرة رجل بالغ وقصي فطيم أو في سن الفطيم,  فاحتملها ربيعة إلى بلادهم من أرض عذرة من

ص -75-         أشراف الشام, فاحتملت معها قصيا لصغره وتخلف زهرة في قومه, فولدت فاطمة بنة عمرو بن سعد لربيعة: رزاح بن ربيعة, فكان أخا قصي بن كلاب لأمه, ولربيعة بن حرام من امرأة أخرى ثلاثة نفر: حن، ومحمود، وجلهمة بنو ربيعة.
فبينا قصي بن كلاب في أرض قضاعة لا ينتمي إلا إلى ربيعة بن حرام, إذ كان بينه وبين رجل من قضاعة شيء وقصي قد بلغ فقال له القضاعي: ألا تلحق بنسبك وقومك فإنك لست منا؟ فرجع قصي إلى أمه وقد وجد في نفسه مما قال له القضاعي, فسألها عما قال له فقالت: والله أنت يا بني خير منه وأكرم, أنت ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة, وقومك عند البيت الحرام وما حوله.
فأجمع قصي للخروج إلى قومه واللحاق بهم, وكره الغربة في أرض قضاعة, فقالت له أمه: يا بني لا تعجل بالخروج حتى يدخل عليك الشهر الحرام فتخرج في حاج العرب, فإني أخشى عليك.
فأقام قصي حتى دخل الشهر الحرام, وخرج في حاج قضاعة حتى قدم مكة, فلما فرغ من الحج أقام بها, وكان قصي رجلًا جليدًا حازمًا بارعًا, فخطب إلى حليل بن حبشية بن سلول الخزاعي ابنته حبى بنة حليل, فعرف حليل النسب ورغب في الرجل فزوجه, وحليل يومئذ يلي الكعبة وأمر مكة.
فأقام قصي معه حتى ولدت حبى لقصي عبد الدار وهو أكبر ولده، وعبد مناف, وعبد العزى، وعبدًا بني قصي.
فكان حليل يفتح البيت, فإذا اعتل أعطى ابنته حبى المفتاح ففتحته, فإذا اعتلت أعطت المفتاح زوجها قصيا أو بعض ولدها فيفتحه.
وكان قصي يعمل في حيازته إليه وقطع ذكر خزاعة عنه، فلما حضرت حليلا الوفاة نظر إلى قصي، وإلى ما انتشر له من الولد من ابنته, فرأى أن

ص -76-         يجعلها في ولد ابنته, فدعا قصيا فجعل له ولاية البيت وأسلم إليه المفتاح, وكان يكون عند حبى، فلما هلك حليل أبت خزاعة أن تدعه وذاك, وأخذوا المفتاح من حبى فمشى قصي إلى رجال من قومه من قريش وبني كنانة ودعاهم إلى أن يقوموا معه في ذلك, وأن ينصروه ويعضدوه, فأجابوه إلى نصره.
وأرسل قصي إلى أخيه لأمه رزاح بن ربيعة وهو ببلاد قومه من قضاعة يدعوه إلى نصره, ويعلمه ما حالت خزاعة بينه وبين ولاية البيت, ويسأله الخروج إليه بمن أجابه من قومه, فقام رزاح في قومه فأجابوه إلى ذلك, فخرج رزاح بن ربيعة ومعه إخوته من أبيه: حن ومحمود وجلهمة بنو ربيعة بن حرام فيمن تبعهم من قضاعة في حاج العرب, مجتمعين لنصر قصي والقيام معه.
فلما اجتمع الناس بمكة خرجوا إلى الحج فوقفوا بعرفة وبجمع, ونزلوا منى وقصي مجمع على ما أجمع عليه من قتالهم بمن معه من قريش، وبني كنانة، ومن قدم عليه مع أخيه رزاح من قضاعة, فلما كان آخر أيام منى أرسلت قضاعة إلى خزاعة يسألونهم أن يسلموا إلى قصي ما جعل له حليل, وعظموا عليهم القتال في الحرم وحذروهم الظلم والبغي بمكة وذكروهم ما كانت فيه جرهم وما صارت إليه حين ألحدوا فيه بالظلم والبغي, فأبت خزاعة أن تسلم ذلك, فاقتتلوا بمفضى مأزمي منى قال: فسمي ذلك المكان المفجر لما فجر فيه وسفك فيه من الدماء وانتهك من حرمته, فاقتتلوا قتالًا شديدًا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعًا, وفشت فيهم الجراحات, وحاج العرب جميعًا من مضر واليمن مستكفون ينظرون إلى قتالهم.
ثم تداعوا إلى الصلح ودخلت قبائل العرب بينهم, وعظموا على الفريقين سفك الدماء والفجور في الحرم, فاصطلحوا على أن يحكِّموا بينهم رجلًا من العرب فيما اختلفوا فيه, فحكموا يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن

ص -77-         الليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة, وكان رجلًا شريفًا, فقال لهم: موعدكم فناء الكعبة غدًا فاجتمع إليه الناس وعدوا القتلى فكانت في خزاعة أكثر منها في قريش وقضاعة وكنانة, وليس كل بني كنانة قاتل مع قصي, إنما كانت مع قريش من بني كنانة قلال يسير1، واعتزلت عنها بكر بن عبد مناة قاطبة.
فلما اجتمع الناس بفناء الكعبة قام يعمر بن عوف فقال: ألا إني قد شدخت ما كان بينكم من دم تحت قدمي هاتين, فلا تباعة لأحد على أحد في دم, وإني قد حكمت لقصي بحجابة الكعبة وولاية أمر مكة دون خزاعة لما جعل له حليل, وأن يخلى بينه وبين ذلك, وأن لا تخرج خزاعة عن مساكنها من مكة؛ قال: فسمي يعمر من ذلك اليوم الشداخ.
فسلمت ذلك خزاعة لقصي وعظموا سفك الدماء في الحرم, وافترق الناس فولي قصي بن كلاب حجابة الكعبة وأمر مكة وجمع قومه من قريش من منازلهم وإلى مكة يستعز بهم, وتملك على قومه فملكوه، وخزاعة مقيمة بمكة على رباعهم وسكناتهم لم يحركوا ولم يخرجوا منها, فلم يزالوا على ذلك حتى الآن.
وقال قصي في ذلك, وهو يتشكر لأخيه رزاح بن ربيعة2:
أنا ابن العاصمين بني لؤي             بمكة مولدي وبها ربيت
ولي البطحاء قد علمت معد            ومروتها رضيت بها رضيت
وفيها وفيها كانت الآباء قبلي           فما شويت أخي ولا شويت
فلست لغالب أن لم تأثل      بها أولاد قيدر والنبيت
رزاح ناصري وبه أسامي        فلست أخاف ضيمًا ما حييت

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل، أ. وفي ب: "قبائل يسيرة".
2 الروض الأنف 1/ 237، شفاء الغرام 2/ 110.

ص -78-         فكان قصي أول رجل من بني كنانة أصاب ملكًا، وأطاع له به قومه, فكانت إليه الحجابة والرفادة والسقاية والندوة واللواء والقيادة, فلما جمع قصي قريشًا بمكة سمي مجمعًا, وفي ذلك يقول حذافة بن غانم الجمحي يمدحه1:
أبوهم قصي كان يدعى مجمعًا         به جمع اللّه القبائل من فهر
هم نزلوها والمياه قليلة         وليس بها إلا كهول بني عمرو
يعني: خزاعة. قال إسحاق بن أحمد: وزادني أبو جعفر محمد بن الوليد بن كعب الخزاعي2:
أقمنا بها والناس فيها قلائل            وليس بها إلا كهول بني عمرو
هم ملكوا3 البطحاء مجدًا وسؤددا    وهم طردوا عنها غواة بني بكر
وهم حفروها والمياه قليلة             ولم يستقى إلا بنكد من الحفر
حليل الذي عادى كنانة كلها           ورابط بيت اللّه في العسر واليسر
أحازم إما أهلكن فلا تزل       لهم شاكرا حتى توسد في القبر
ويقال: من أجل تجمع قريش إلى قصي سميت قريش قريشًا، قال أبو الوليد: وأنشدني عبد العزيز بن إسماعيل الحلبي في التقرش, وهو الاجتماع4:
أيجدي كثحنا للطعان إذا             اقترش القنا وتقعقع الحجف

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شفاء الغرام 2/ 110.
2 شفاء الغرام 2/ 110.
3 كذا في الأصل أ, ومثله في شفاء الغرام 2/ 110. وفي ب "ملئوا" ومثله في الروض الأنف 1/ 234.
4 كذا في الأصل ب, وفي أ: "الإجماع".

ص -79-         ولبعضهم:
قوارش بالرماح كان فيها      شواطن ينتزعن به انتزاعا
والتجمع: التقرش في بعض كلام العرب, ويقال: كان يقال لقصي: القرشي ولم يسم قرشي قبله. ويقال أيضًا: إن النضر بن كنانة كان يسمى القرشي. وقد قيل أيضًا: إنما سميت قريش قريشًا أنها كانت تجارًا تكتسب وتتجر وتحترش, فشبهت بحوت في البحر.
حدثني أبو الحسن الوليد بن أبان الرازي, عن علي بن جعفر بن محمد, عن أبيه قال: قيل لابن عباس: لم سميت قريش قريشًا؟ قال: بأمر بين مشهور بدابة في البحر تسمى قريش, والدليل على ذلك قول تبع حين يقول:
وقريش هي التي تسكن البحر          بها سميت قريش قريشا
تأكل الغث والسمين ولا          تترك فيه لذي جناحين ريشا
هكذا في البلاد حتى قريش              يأكلون البلاد أكلا كشيشا
ولهم آخر الزمان نبي              يكثر القتل فيهم والخموشا
ثم رجع إلى حديث ابن جريج ومحمد بن إسحاق قال: فحاز قصي شرف مكة وأنشأ دار الندوة, وفيها كانت قريش تقضي أمورها, ولم يكن يدخلها من قريش من غير ولد قصي إلا ابن أربعين سنة للمشورة, وكان يدخلها ولد قصي كلهم أجمعون وحلفاؤهم, فلما كبر قصي ورق كان عبد الدار بكره وأكبر ولده وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه وذهب شرفه كل مذهب, وعبد الدار وعبد العزى وعبد بنو قصي بها لم يبلغوا ولا أحد من قومهم من قريش ما بلغ عبد مناف من الذكر والشرف والعز.
وكان قصي وحبى بنة حليل يحبان عبد الدار, ويرقان عليه لما يريان عليه من

ص -80-         شرف عبد مناف وهو أصغر منه فقالت له حبى: لا والله لا أرضى حتى تخص عبد الدار بشيء تلحقه بأخيه, فقال قصي: والله لألحقنه به ولأحبونه بذروة الشرف حتى لا يدخل أحد من قريش ولا غيرها الكعبة إلا بإذنه ولا يقضون أمرًا ولا يعقدون لواء إلا عنده, وكان ينظر في العواقب.
فأجمع قصي على أن يقسم أمور مكة الستة التي فيها الذكر، والشرف، والعز بين ابنيه؛ فأعطى عبد الدار السدانة وهي الحجابة, ودار الندوة، واللواء، وأعطى عبد مناف السقاية، والرفادة، والقيادة.
فأما السقاية فحياض من أدم كانت على عهد قصي توضع بفناء الكعبة, ويسقى فيها الماء العذب من الآبار على الإبل, ويسقاه الحاج.
وأما الرفادة فخرج كانت قريش تخرجه من أموالها في كل موسم, فتدفعه إلى قصي يصنع به طعامًا للحاج, يأكله من لم يكن معه سعة ولا زاد.
فلما هلك قصي أقيم أمره في قومه بعد وفاته على ما كان عليه في حياته, وولي عبد الدار حجابة البيت، وولاية دار الندوة، واللواء فلم يزل يليه حتى هلك, وجعل عبد الدار الحجابة بعده إلى ابنه عثمان بن عبد الدار، وجعل دار الندوة إلى ابنه عبد مناف بن عبد الدار.
فلم يزل بنو عبد مناف بن عبد الدار يلون الندوة دون ولد عبد الدار, فكانت قريش إذا أرادت أن تشاور في أمر فتحها لهم عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار أو بعض ولده أو ولد أخيه، وكانت الجارية إذا حاضت أدخلت دار الندوة ثم شق عليها بعض ولد عبد مناف بن عبد الدار درعها ثم درَّعها إياه, وانقلب بها أهلها فحجبوها, وكان عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار يسمى محيضًا، وإنما سميت دار الندوة لاجتماع النداة فيها يندونها, يجلسون فيها لإبرام أمرهم وتشاورهم.
ولم يزل بنو عثمان بن عبد الدار يلون الحجابة دون ولد عبد الدار ثم

ص -81-         وليها عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها أبو طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، ثم وليها ولده من بعده حتى كان فتح مكة فقبضها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أيديهم وفتح الكعبة ودخلها, ثم خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الكعبة مشتملًا على المفتاح فقال له العباس بن عبد المطلب: بأبي أنت وأمي يا رسول الله, أعطنا الحجابة مع السقاية, فأنزل الله -عز وجل- على نبيه -صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: فما سمعتها من رسول الله -صلى الله  عليه وسلم- قبل تلك الساعة, فتلاها ثم دعا عثمان بن طلحة فدفع إليه المفتاح وقال: "غيبوه" ثم قال: "خذوها يا بني أبي طلحة بأمانة الله سبحانه، واعملوا فيها بالمعروف خالدة تالدة, لا ينزعها من أيديكم إلا ظالم".
فخرج عثمان بن طلحة إلى هجرته مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأقام ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة فلم يزل يحجب هو وولده وولد أخيه وهب بن عثمان, حتى قدم ولد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة وولد مسافع بن طلحة بن أبي طلحة من المدينة, وكانوا بها دهرًا طويلًا, فلما قدموا حجبوا مع بني عمهم, فولد أبي طلحة جميعًا يحجبون.
وأما اللواء فكان في أيدي بني عبد الدار كلهم, يليه منهم ذوو السن والشرف في الجاهلية, حتى كان يوم أحد فقُتل عليه من قُتل منهم.
وأما السقاية، والرفادة، والقيادة فلم تزل لعبد مناف بن قصي يقوم بها حتى توفي, فولي بعده هاشم بن عبد مناف السقاية والرفادة, وولي عبد شمس بن عبد مناف القيادة, وكان هاشم بن عبد مناف يطعم الناس في كل موسم بما يجتمع عنده من ترافد قريش, كان يشتري بما يجتمع عنده دقيقًا ويأخذ من كل ذبيحة من بدنة أو بقرة أو شاة فخذها فيجمع ذلك كله ثم يحرز به الدقيق ويطعمه الحاج, فلم يزل على ذلك من أمره حتى أصاب الناس في سنة جدب شديد, فخرج هاشم بن عبد مناف إلى الشام فاشترى بما اجتمع عنده

ص -82-         من ماله دقيقًا وكعكًا, فقدم به مكة في الموسم فهشم ذلك الكعك ونحر الجزور1 وطبخه وجعله ثريدًا, وأطعم الناس وكانوا في مجاعة شديدة حتى أشبعهم, فسمي بذلك هاشمًا وكان اسمه عمرا, ففي ذلك يقول ابن الزبعرى السهمي2:
كانت قريش بيضة فتفلقت         فالمح3 خالصها لعبد مناف
الرايشين وليس يوجد رايش      والقائلين هلم للأضياف
والخالطين غنيهم بفقيرهم        حتى يعود فقيرهم كالكاف
والضاربين الكيس تبرق بيضه      والمانعين البيض بالأسياف
عمرو العلا هشم الثريد لمعشر            كانوا بمكة مسنتين عجاف
يعني بعمرو العلا: هاشمًا. فلم يزل هاشم على ذلك حتى توفي, وكان عبد المطلب يفعل ذلك فلما توفي عبد المطلب, قام بذلك أبو طالب في كل موسم حتى جاء الإسلام وهو على ذلك، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد أرسل بمال يعمل به الطعام مع أبي بكر -رضي الله عنه- حين حج أبو بكر بالناس سنة تسع, ثم عمل في حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع, ثم أقام أبو بكر في خلافته ثم عمر -رضي الله عنه- في خلافته, ثم الخلفاء هلم جرا حتى الآن4.
وهو طعام الموسم الذي تطعمه الخلفاء اليوم في أيام الحج بمكة وبمنى, حتى تنقضي أيام الموسم.
وأما السقاية فلم تزل بيد عبد مناف, فكان يسقي الماء من بئر رم، وبئر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل ب, ومثله في شفاء الغرام 2/ 111. وفي أ: "الجزر" والجزور: ما يصلح لأن يذبح من الإبل, وجمعه: جزر.
2 شفاء الغرام 2/ 141.
3 المح: خالص كل شيء, وما في جوف البيضة من صفرة، أو من صفرة وبياض.
4 شفاء الغرام 2/ 141.

ص -83-         خم1 على الإبل في المزاد والقرب, ثم يسكب ذلك الماء في حياض من أدم بفناء الكعبة, فيرده الحاج حتى يتفرقوا. فكان يستعذب ذلك الماء, وقد كان قصي حفر بمكة آبارًا وكان الماء بمكة عزيزًا إنما يشرب الناس من آبار خارجة من الحرم, فأول ما حفر قصي بمكة حفر بئرًا يقال لها: العجول, كان موضعها في دار أم هانئ بنت أبي طالب بالحزورة, وكانت العرب إذا قدمت مكة يردونها فيسقون منها ويتراجزون عليها, قال قائل فيها2:
أروى من العجول ثمت انطلق            إن قصيا قد وفى وقد صدق
بالشبع للحي وري المغتبق
وحفر قصي أيضًا بئرًا عند الردم الأعلى عند دار أبان بن عثمان التي كانت لآل جحش بن رئاب ثم دثرت, فنثلها جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف وأحياها, ثم حفر هاشم بن عبد مناف بذّر, وقال حين حفرها: لأجعلنها للناس بلاغًا وهي البئر التي في حق المقوم بن عبد المطلب في ظهر دار الطلوب مولاة زبيدة بالبطحاء, في أصل المستنذر وهي التي يقول فيها بعض ولد هاشم:
نحن حفرنا بذر          بجانب المستنذر

نسقي الحجيج الأكبر3
وحفر هاشم أيضًا سجلة4 وهي البئر التي يقال لها: بئر جبير بن مطعم, دخلت في دار القوارير, فكانت سجلة لهاشم بن عبد مناف, فلم تزل لولده حتى وهبها أسد بن هاشم للمطعم بن عدي حين حفر عبد المطلب

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في شفاء الغرام 2/ 141. وفي الأصول: "بئر كرادم وبئر خمّ" ورم: بئر في ضواحي مكة، وكذلك خم: بئران حفرهما عبد شمس بن عبد مناف "ياقوت".
2 شفاء الغرام 2/ 142.
3 شفاء الغرام 2/ 142.
4 سجلة: كانت برباط السدرة, كما ذكر الفاسي.

ص -84-         زمزم واستغنوا عنها، ويقال: وهبها له عبد المطلب حين حفر عبد المطلب زمزم واستغنى عنها وسأله المطعم بن عدي أن يضع حوضًا من أدم إلى جانب زمزم يسقى فيه من ماء بئره, فأذن له في ذلك وكان يفعل، فلم يزل هاشم بن عبد مناف يسقي الحاج حتى توفي, فقام بأمر السقاية بعده عبد المطلب بن هاشم فلم يزل كذلك حتى حفر زمزم فعفت على آبار مكة كلها، وكان منها مشرب الحاج، قال: وكانت لعبد المطلب إبل كثيرة, فإذا كان الموسم جمعها ثم يسقي لبنها بالعسل في حوض من أدم عند زمزم, ويشتري الزبيب فينبذه بماء زمزم ويسقيه الحاج لأن1 يكسر غلظ ماء زمزم, وكانت إذ ذاك غليظة جدا، وكان الناس إذ ذاك لهم في بيوتهم أسقية يسقون فيها الماء من هذه البئار, ثم ينبذون فيها القبضات من الزبيب والتمر لأن يكسر عنهم غلظ ماء آبار مكة, وكان الماء العذب بمكة عزيزًا لا يوجد إلا لإنسان يستعذب له من بئر ميمون وخارج من مكة، فلبث عبد المطلب يسقي الناس حتى توفي2.
فقام بأمر السقاية بعده العباس بن عبد المطلب فلم تزل في يده, وكان للعباس كرم بالطائف وكان يحمل زبيبه إليها, وكان يداين أهل الطائف ويقتضي منهم الزبيب فينبذ ذلك كله ويسقيه الحاج أيام الموسم حتى ينقضي في الجاهلية وصدر الإسلام حتى دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة يوم الفتح, فقبض السقاية من العباس بن عبد المطلب والحجابة من عثمان بن طلحة.
فقام العباس بن عبد المطلب فبسط يده وقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمع لنا الحجابة والسقاية, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم:
"أعطيكم ما ترزءون فيه ولا ترزءون منه". فقام بين عضادتي باب الكعبة فقال: "ألا إن كل دم أو مال أو مأثرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج وسدانة

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لدى الفاسي 2/ 143: "لأنه".
2 شفاء الغرام 2/ 143.

ص -85-         الكعبة, فإني قد أمضيتهما لأهلهما على ما كانتا عليه في الجاهلية" فقبضها العباس فكانت في يده حتى توفي, فوليها بعده عبد الله بن العباس -رضي الله عنه- فكان يفعل فيها كفعله دون بني عبد المطلب.
وكان محمد بن الحنفية قد كلم فيها ابن عباس فقال له ابن عباس: ما لك ولها؟ نحن أولى بها منك في الجاهلية والإسلام، قد كان أبوك تكلم فيها فأقمت البينة [وشهد لي] طلحة بن عبيد الله، وعامر بن ربيعة، وأزهر بن عبد عوف، ومخرمة بن نوفل أن العباس بن عبد المطلب كان يليها في الجاهلية بعد عبد المطلب وجدك أبا طالب في إبله في باديته بعرنة, وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعطاها العباس يوم الفتح دون بني عبد المطلب, فعرف ذلك من حضر1.
فكانت بيد عبد الله بن عباس بعد أبيه ولا ينازعه فيها منازع، ولا يتكلم فيها متكلم حتى توفي  فكانت بيد علي بن عبد الله بن عباس يفعل فيها كفعل أبيه وجده, يأتيه الزبيب من ماله بالطائف وينبده حتى توفي, وكانت بيد ولده حتى الآن2.
وأما القيادة فوليها من بني عبد مناف، عبد شمس بن عبد مناف, ثم وليها من بعده أمية بن عبد شمس، ثم من بعده حرب بن أمية, فقاد بالناس يوم عكاظ في حرب قريش وقيس عيلان، وفي الفجارين: الفجار الأول والفجار الثاني, وقاد الناس قبل ذلك بذات نكيف في حرب قريش وبني بكر بن عبد مناة بن كنانة, والأحابيش يومئذ مع بني بكر تحالفوا3 على جبل يقال له: الحبشي على قريش فسموا الأحابيش بذلك4.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شفاء الغرام 2/ 144, وما بين حاصرتين منه.
2 شفاء الغرام 2/ 144.
3 كذا في الأصل ب, ومثله في شفاء الغرام. وفي أ: "يحالفوا".
4 شفاء الغرام 2/ 144.

ص -86-         ثم كان أبو سفيان بن حرب يقود قريشًا بعد أبيه حتى كان يوم بدر فقاد الناس عتبة بن ربيعة بن عبد شمس, وكان أبو سفيان بن حرب في العير يقود الناس, فلما أن كان يوم أحد قاد الناس أبو سفيان بن حرب وقاد الناس يوم الأحزاب, وكانت آخر وقعة لقريش وحرب, حتى جاء الله بالإسلام وفتح مكة1.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 شفاء الغرام 2/ 144.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق